البدعة والاحتفال بالمولد الشريف
الحمد لله رب الكائنات، المنزه عن الحدود والغايات والأركان والأعضاء والأدوات، ولا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات، ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر. والصلاة والسلام على خير الكائنات وعلى سائر إخوانه النبيين المؤيَّدين بالمعجزات الباهرات.
أما بعد يقول اللهُ تعالى في القرءان الكريم: (وَجَعَلنَا فِي قُلُوبِ الذَّينَ اتَّبَعُوهُ رَأفَةً وَرَحمَةً وَرَهبَانِيَّةً ابتَدَعُوهَا مَا كَتَبنَهَا عَلَيهِم إِلاَّ ابتِغَاءَ رِضوَانِ اللهِ) الحديد / 27.
إخوة الإيمان، إنَّ هذه الآية الكريمة تَدُلُّ على البدعة الحسنة لأن معناها مدحُ الذين كانوا من أمة عيسى من المسلمينَ المؤمنينَ المتبعين له عليه السلام بالإيمان والتوحيد، فاللهُ تعالى مدَحَهُم لأنهم كانوا أهل رأفةٍ ورحمةٍ ولأنهم ابتدعوا رهبانيةً، والرهبانيةُ هي الإنقطاعُ عن الشهواتِ حتى إنهم انقطعوا عنِ الزواج بدون تحريم رغبة في تجرُّدِهِم للعبادة.
فمعنى قوله تعالى: (مَا كَتَبنَهَا عَلَيهِم) أي نحن ما فرضناها عليهم إنما هم أرادوا التقرب إلى الله، فاللهُ تعالى مدحهُم على ما ابتدعوا مما لم ينُصَّ لهم عليهِ في الإنجيلِ ولا قالَ لهم المسيحُ بنصٍ منه، إنما هم أرادوا المبالغة في طاعةِ الله تعالى، والتجرد بترك الانشغال بالزواج ونفقة الزوجةِ والأهلِ، فكانوا يبنون الصوامعَ، أي بيوتًا خفيفة من طين أو من غير ذلك على المواضعِ المنعزلةِ عن البلَدِ ليتجردوا للعبادةِ فاللهُ تعالى سمَّى الرهبانيةَ بدعةً ومعَ ذلك فقد مدحها، وهذا يدل على أن ليس كل بدعة ضلالة.
فالبدعةُ أيها الأحبة هي كل ما أُحدِثَ مما لم يرد فيه نصٌّ شرعيٌّ في كتاب اللهِ ولا على لسان النبي، ومعَ ذلكَ فهي تنقسمُ إلى قِسمينِ بدعة هدى وبدعة ضلالة، ويدُل على ذلك الحديث الذي رواه مسلم في صحيحِه من حديث جرير بن عبد اللهِ البجليّ رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن سنَّ في الإسلامِ سُنَّةً حسنةً فلَه أجرها وأجرُ مّن عَمِلَ بها بعده من غير ان ينقص من أجورهم شئ ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شئ".
وقد روى الحافظ البيهقي بإسناده في مناقب الشافعي عن الشافعي رضي الله عنه قال: "المحدثات من الأمور ضربان: أحدهما مما يخالف كتابًا أو سنة أو أثرًا أو إجماعًا، فهذه البدعة الضلالة، والثانيةَ ما أُحدِثَ مِن الخيرِ لا خلافَ فيه لواحدٍ مِن هذا، وهذِهِ محدَثَةً غيرُ مذمومةٍ".
فإذًا ما أُحدِثَ ولم يخالِفْ شرعَ اللهِ فهو بدعةُ هُدَىً وما أُحدِثَ مما يخالفُ شرعَ اللهِ فهو بدعةُ ضلالةٍ.
ولم يَعتَرِض عليه في هذا الفعل في عصره ولا فيما بعده أحد من العلماء المعتبرين بل وافقوا على ذلك ومدحوه لما فيه من البركة والخيرات.