التَّفَكُّرُ بِمَخْلوقَاتِ اللهِ: المَطَرِ وَالأنعَامِ وأَلبَانِهَا

إن الحَمْدَ لِلهِ نَحْمَدُهُ سُبحَانَه وتَعَالَى وَنَسْتَهْدِيهِ وَنَشْكُرُه، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شُرورِ أَنْفُسِنَا وَسَـيِّـئَاتِ أَعْمَالِنا، مَن يهدِ اللهُ فلا مُضِلَّ لَهُ ومن يُضلِلْ فلا هَادِيَ لهُ، وأشهدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ وحدهُ لا شريكَ لَهُ ولا مثيلَ لَهُ ولا ضِدَّ ولا نِدَّ ولا صورَةَ ولا هيئَةَ ولا أعضاءَ ولا أَدَواتِ ولا جسمَ ولا مكانَ له.

فيَـا عَجبًـا كَيْفَ يُعصَى الإلهُ أَمْ كَيْفَ يَجْحَدُهُ الْجاحدُ

وفِي كُـلِّ تَحْريكةٍ ءَايـةٌ وَفِي كُلِّ تَسْكِينَةٍ شَاهِـدُ

وَفِي كُـلِّ شَىءٍ لَهُ ءَايَـةٌ تَدُلُّ على أَنَّــه وَاحـدُ

هوَ اللهُ الوَاحِدُ الأَحَدُ الأَوَّلُ القَدِيمُ الذِي لا بِدَايَةَ لِوُجُودِهِ، خَلَقَ العَالَمَ بِأَسْرِهِ العُلْوِيَّ وَالسُّفْليَّ والعَرشَ والكُرسيَّ والسَّماواتِ والأَرضَ وَمَا فيهِما وَمَا بَينهُمَا، فَلا يَحْتَاجُ رَبُّنا لا لِلْعَرْشِ وَلا لِلْكُرْسِيِّ ولا للسماواتِ ولا لِلأرضِ هو غَنِيٌّ عنِ العالَمينَ ليسَ كمثلِهِ شىءٌ وهُوَ السميعُ البَصِيرُ. وأشهَدُ أنَّ سيِّدَنا وعظيمَنا وقائِدَنا وقرَّةَ أعينِنا مُحمَّدًا عبدُه ورسولُه وصفيُّهُ وخليلُه، بلَّغَ الرسالةَ وأدَّى الأَمَانةَ ونصَحَ الأُمَّةَ فَجَزَاهُ اللهُ عَنَّا خَيْرَ ما جَزَى نبيًّا من أنبيائِهِ، اللهمَّ صَلِّ وسلِّمْ علَى سيِّدِنا محمَّدٍ أَصْفَى الأَصفِيَاءِ وأوفَى الأَوْفِياءِ وعلَى ءالِه وصَحْبِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِين.

أما بَعْدُ عِبَادِ اللهِ، فَإِنِّي أُوصِيكُمْ وَنَفْسِيَ بِتَقْوَى اللهِ العَلِيِّ القديرِ القَائِلِ في مُحْكَمِ كتابِهِ: ﴿وَاللهُ أَنزَلَ مِنَ الْسَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ * وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ. 65- 66 سورة النحل.

إخوةَ الإِيمانِ، كَمْ هُوَ عَظِيمٌ أَنْ نَتَفَكّرَ فِي مَخْلُوقَاتِ اللهِ فَإِنَّ هَذَا يَدُلُّ على عَظِيمِ قُدرَةِ اللهِ سُبْحَانَهُ وتعالَى، فاللهُ عَزَّ وجلَّ هو الذِي أَنْزَلَ لَنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً أحْيَا بِهِ الأَرْضَ بعْدَ مَوتِها فصارَتْ خَضْرَاءَ بعدَ أَنْ كَانَتْ جَدْبَاء، إنَّ في ذلِكَ لآيةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ، يَسْمَعُونَ سَمَاعَ إِنْصَافٍ وَتَدَبُّر، لأنَّ مَنْ لَمْ يَسْمَعْ بِقَلْبِه فَكَأَنَّهُ لا يَسْمَعُ. وَجَعَلَ لَنَا فِي الأَنْعَامِ عِبْرَةً يُسْقِينَا مِمَّا في بُطونِها، وَالأَنْعَامُ أيُّها الإخوَةُ هيَ الإبِلُ وَالبَقَرُ وَالغَنَمُ، يُسقينَا رَبُّنا تباركَ وتعالى، القَادِرُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ، مِمَّا في بُطونِ هذهِ الأَنْعَامِ لَبَنًا أَيْ حليبًا مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ، وهُنَا تَأَمَّلْ مَعِي أَخِي المؤمِنُ واسْمَعْ جَيِّدًا واخْشَعْ فِي قَلْبِكَ للهِ العَزِيزِ الجَبَّار، فَالفَرْثُ هُوَ مَا فِي الكَرِشِ، والحَلِيبُ الذِي يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِ الأَنْعَامِ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ، مِنْ أَينَ يَخْرُجُ؟ يخرُجُ مِنْ بَينِ الفَرْثِ وَالدَّمِ الّذَيْنِ يُحِيطَانِ بهِ، وبينَ هذا الحليبِ وبينَ الفرثِ وَالدَّمِ بَرْزَخٌ، والبَرْزَخُ هُوَ الحَاجِزُ بينَ الشَّيْئَيْنِ، لا يَبْغِي أَحَدُهُما على الآخَر، أَيْ لا يَتَعَدَّى أَحَدُهُما عَلَى اللبَنِ، لا يَتَعَدَّى الفَرْثُ وَلا الدَّمُ علَى اللبَنِ لا بِلَوْنٍ وَلا بِطَعْمٍ وَلا بِرَائِحَةٍ، بَلْ هُوَ خَالِصٌ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَسُبْحَانَ اللهِ العَظِيم.

﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ سورة النحل/66. فإِذَا أكَلَتِ البَهيمَةُ العَلَفَ فاسْتَقَرَّ في كَرِشِها، طَبَخَتْهُ فَكَانَ أَسْفَلُه فَرْثًا وأوسطُهُ لَبنًا وَأَعْلاهُ دَمًا كُلُّها مُتَّصِلَةٌ وَلا تَخْتَلِطُ، اللهُ سبحانَهُ وتعالَى يَحجزُ هذا عن هَذا، والكَبِدُ مُسَلَّطَةٌ علَى هذِهِ الأَصْنَافِ الثَّلاثَةِ، تُقَسِّمُها فَيَجْرِي الدَّمُ في العُروقِ، وَاللبَنُ في الضُّروعِ ويَبْقَى الفَرْثُ في الكَرِشِ يَنْحَدِرُ، وفي ذَلِكَ عِبْرَةٌ لِمَنْ يَعْتَبِرُ، فَخُذُوا العِبْرَةَ يَا أَصْحَابَ العُقُولِ تَشْرَبُونَ لَبَنًا خَرَجَ مِنْ بطونِ الأنعامِ التي لا تَعقِلُ، وقد اكتَنَفَهُ أي أحاطَه الفرثُ والدم، ولكنَّ الفَرْثَ وَالدَّمَ لَمْ يَخْتَلِطَا بِاللبَنِ الذِي خَرَجَ شَرَابًا سَائِغًا سَهْلَ المُرُورِ فِي الحَلْقِ، واللهُ تعالَى جَعَلَ لَنَا فِيهِ شِفَاءً، كَيفَ لا وَقَدْ أَخْبَرَ الصادقُ المَصْدُوقُ صلى الله عليه وسلم في حديثِهِ الشَّريفِ: "عَلَيْكُمْ بأَلْبَانِ الإِبِلِ والبَقَرِ فَإِنَّهَا تَرُمُّ مِنَ الشَّجَرِ كُلِّهِ وَهو دَواءٌ مِن كُلِّ دَاءٍ" رواهُ ابنُ عسَاكِرَ وَصَحَّحَهُ السيوطيُّ، تَرُمُّ أي تأخُذُه بِشَفَتِها أَيْ كِنَايةً عنِ الأَكْلِ، وجاءَ في الحَدِيثِ أَيْضًا: "إنَّ في أَبْوَالِ الإبِلِ وألبَانِها شِفَاءً لِلذَّرِبَةِ بُطُونُهُم" أيِ الذينَ فَسَدَتْ بطونُهُم.

إخوةَ الإيمانِ، إنَّ في خُطْبَتِنَا هَذِهِ بُغْيَةً وَمُرَادًا أَلا وَهُوَ حَثُّكُم عَلَى التَّفَكُرِ بِمَخْلُوقَاتِ اللهِ، فَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ عندَمَا يَشْرَبُونَ اللبَنَ الخَارِجَ مِنَ الأَنْعَامِ، أي الحليبَ، لا يَخْطُرُ في بَالِهِم، لا أَيْنَ كَانَ وَلا كَيفَ كَانَ، وَلا كَيفَ خرَجَ، بَل همُّهُمْ إِشْبَاعُ شَهْوَةِ بُطُونِهِم بَلْ وَلا يَشْكُرونَ اللهَ عَلَى هَذِه النِّعْمَةِ العَظِيمَةِ التِي جَعَلَ اللهُ لَنَا فيهَا شِفَاءً.

وَهُنَا فَائِدَةٌ جَلِيلَةٌ أَحُثُّكم على العَمَلِ بِهَا، فَقَدْ رَوَى أَبو دَاوُدَ في سُنَنِهِ أَنَّ رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلم قالَ: "إذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا فَلْيَقُلْ: اللهمَّ بارِكْ لَنَا فيهِ، وَأطْعِمْنَا خَيرًا مِنْهُ، وَإِذَا سُقِيَ لَبَنًا فَلْيَقُلْ اللهمَّ بَارِكْ لنَا فيهِ وَزِدْنا مِنْهُ"، الحديثَ.

أمَّا أَنْتَ أخِي المؤمنُ بَعْدَ هذِهِ الخُطْبةِ تَفَكَّرْ في مَخْلوقَاتِ اللهِ في الحَلِيبِ الخَارِجِ من بطونِ الأنعام، وفي المَطَرِ النَّازِلِ منَ السماءِ، وفي السَّمَكِ الذِي في البِحَار، وَفِي مَجْرَى الأَنْهارِ، وَرَائِحَةِ الأَزْهَارِ، تَفَكَّرْ في نَفْسِكَ، فأَنْتَ دَلِيلٌ عَلَى كَمَالِ قُدْرَةِ اللهِ.

فيَـا عَجبًـا كَيْفَ يُعصَى الإلهُ أَمْ كَيْفَ يَجْحَدُهُ الْجاحدُ

وفِي كُـلِّ تَحْريكةٍ ءَايـةٌ وَفِي كُلِّ تَسْكِينَةٍ شَاهِـدُ

وَفِي كُـلِّ شَىءٍ لَهُ ءَايَـةٌ تَدُلُّ على أَنَّــه وَاحـدُ

رَبِّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ عَلَى أَفْضَلِ وَأَعْظَمِ نِعْمَةٍ، نِعْمَةِ الإيمان، والثباتَ على دينِ الإِسْلامِ، إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَىءٍ قَدِيرٌ.

هذا وأستَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ.

الخُطبةُ الثانيةُ:

الحمدُ للهِ نحمَدُه ونستعينُه ونستغفرُه ونستهْدِيهِ ونشكُرُه ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أنفسِنا وسيّئاتِ أعْمَالِنا مَنْ يَهْدِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لهُ ومَنْ يُضْلِلْ فلا هادِيَ لهُ والصلاةُ والسلامُ على محمدِ بنِ عبدِ اللهِ وعلَى ءالِه وصحبِه ومَنْ وَالاهُ.

عبادَ اللهِ أُوصِيْ نفسِيَ وإيّاكمْ بتقْوَى اللهِ العَليّ العظيمِ.

واعلَموا أنَّ اللهَ أمرَكُمْ بأمْرٍ عظيمٍ، أمرَكُمْ بالصلاةِ والسلامِ على نبيِهِ الكريمِ فقالَ: ﴿إنَّ اللهَ وملائكتَهُ يصلُّونَ على النبِيِ يَا أيُّهَا الذينَ ءامَنوا صَلُّوا عليهِ وسَلّموا تَسْليمًا. اللّـهُمَّ صَلّ على سيّدِنا محمَّدٍ وعلى ءالِ سيّدِنا محمَّدٍ كمَا صلّيتَ على سيّدِنا إبراهيمَ وعلى ءالِ سيّدِنا إبراهيم وبارِكْ على سيّدِنا محمَّدٍ وعلى ءالِ سيّدِنا محمَّدٍ كمَا بارَكْتَ على سيّدِنا إبراهيمَ وعلى ءالِ سيّدِنا إبراهيمَ إنّكَ حميدٌ مجيدٌ. اللّـهُمَّ إنَّا دعَوْناكَ فاستجبْ لنا دعاءَنا، فاغفرِ اللّـهُمَّ لنا ذنوبَنا وإسرافَنا في أمرِنا، اللّـهُمَّ اغفِرْ للمؤمنينَ والمؤمناتِ الأحياءِ منهُمْ والأمواتِ، ربَّنا ءاتِنا في الدنيا حسَنةً وفي الآخِرَةِ حسنةً وقِنا عذابَ النارِ، اللّـهُمَّ اجعلْنا هُداةً مُهتدينَ غيرَ ضالّينَ ولا مُضِلينَ، اللّـهُمَّ استرْ عَوراتِنا وءامِنْ روعاتِنا واكفِنا مَا أَهمَّنا وَقِنّا شَرَّ ما نتخوَّفُ.

عبادَ اللهِ، إنَّ اللهَ يأمرُ بالعَدْلِ والإحسانِ وإيتاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفحشاءِ والمنكرِ والبَغي، يعظُكُمْ لعلَّكُمْ تذَكَّرون. اذكُروا اللهَ العظيمَ يذكرْكُمْ واشكُروهُ يزِدْكُمْ واستَغْفِرُوهُ يَغْفِرْ لكُمْ واتّقوهُ يجعلْ لكُمْ مِنْ أمرِكُمْ مخرَجًا. وَأَقِمِ الصلاةَ.

Share this post

Submit to DiggSubmit to FacebookSubmit to Google PlusSubmit to StumbleuponSubmit to TwitterSubmit to LinkedIn