Tuesday, 10 December 2024
A+ R A-

لِمَ تَقولون مَا لا تَفعلون

Click here to listen to this speech: Why do you say what you do not do?

الحمد لله رب العالمين* والصلاة والسلام على رسول الله محمد سيد المرسلين* وعلى ءاله وصحبه الطيبين الطاهرين* وبعد. عباد الله اتقوا الله. قال الله تعالى: ﴿ يا أيها الذين ءامَنوا اتقوا اللهَ وكونوا مع الصادقين ﴾ (التَّوبة، ٩١١)

ثم إنّ الله تعالى ذمَّ في كتابه قومًا كانوا يأمرون بأعمال البر ولا يعمَلون بها؛ وبَّخَهم به توبيخًا يُتلَى على طول الدهر إلى يوم القيامة: ﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ (البقرة ٤٤). وردت هذه الآية في سياق تذكير بنى إسرائيل بنعم الله عليهم، وبيانِ ما كان مِن أمْرهم. قال ابنُ عباس رضى الله عنهما فى معنى الآية: “أتنهَون الناسَ عن الكفر بما عندَكم من النبوة، والعهدة من التوراة، وتتركون أنفسَكم، وأنتم تكفرون بما فيها من عهدِى إليكم فى تصديق رسولى، وتنقضون ميثاقى، وتجحدون ما تعلَمون من كتابى!”

وأخرج مالك في تفسيره عن زيد بن أسلم قال: نزلت هذه الآية [﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ* ﴾ (الصفّ ٢-٣) ] فى نفر من الأنصار فيهم عبدُ الله بنُ رَواحة قالوا فى مجلس: لو نعلم أىّ الأعمال أحب إلى الله لعملنا به حتى نموت. [وفى رواية: فكرهوا ذلك] فأنزل الله هذه فيهم. فقال ابن رواحة: لا أبرح حبيسًا فى سبيل الله حتى أموتَ شهيدًا. وأخرج عبدُ بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن أبى صالح قال: قال المسلمون: لو أمرنا بشىء نفعله. فنزلت ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ*﴾. قال: بلغنى أنها نزلت فى الجهاد. كان الرجل يقول: قاتلتُ وفعلتُ، ولم يكن فعَل. فوعظَهم الله فى ذلك أشدَّ الموعظة.

وقال تعالى إخبارًا عن سيدنا شعيب عليه السلام: ﴿ وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ ﴾ (هود ٨٨). أى لم أكن لأنهاكم عن أمر ثم أرتكبَه. ما أريد بما ءامُركم به إلا إصلاحَ أموركم بقدر طاقتى وهو إبلاغكم لا إجبارُكم.

وقال : “يُؤتَى بالرجل يوم القيامة فيُلقَى فى النار فتندلق (تخرج) أقتابُ (أمعاءُ) بطنه. فيدور بها كما يدور الحمار فى الرَّحى.[1] فيجتمع إليه أهلُ النار فيقولون: يا فلانُ ما لك؟ ألم تكن تأمرُ بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى. كنت ءامُر بالمعروف ولا ءاتيه، وأنهى عن المنكر وءاتيه.” مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وقال : “لمَّا عُرج بى مررتُ على قوم تُقرَض شِفاهُهم وألسنتُهم بمقاريضَ من نار. فقلت: مَن هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاءِ خطباءُ أمَّتِك الذين يقولون ما لا يفعلون.” رواه ابن حبان.

وقال التابعىُّ الجليل أبو الأَسْوَد الدُّؤَلِىُّ:

لا تَنـْهَ عن خُـلـُــقٍ وتَـأتـِىَ مـثـلـَـه[2] عارٌ عليكَ إذا فَـعَـلتَ عظيــمُ

وابدأْ بنفسِكَ فانهَهَـا عن غَـيّـِهـا فإن انتهتْ عنه فأنت حكيـمُ

يُحجِم كثير من الناس عن الأمر بالمعروف والنهْىِ عن المنكر بحجة أنه مقصر في نفسه. ويظن ويعتقد أنه لا يَحِلُّ له أن يأمرَ بما لا يأتيه، أوينهَى عما هو واقع فيه، بل يُنكِرُ أشدَّ الإنكار على الذين يأمرون وينهَون مع تقصيرهم، مستدلًّا بمِثل الآيات والأحاديث والآثار المذكورةِ سابقًا.

والتوبيخُ الواردُ فيها هو في ترك فعل البِرّ لا بسبب الأمرِ بالبر والمعروفِ والنهىِ عن المنكر والقبيحِ. فهذان أمران مختلفان. وما لا يُدرَك كلُّه لا يُترَك جُلُّه. فالذى لا يقدر أن يخشَعَ فى الصلاة أو لا يقدرُ أن يصلىَ جماعةً لايمتنع عن الصلاة بالمرة! فالآمرُ الناهى غيرُ الملتزم بما يأمُر ولا المنتهِى عما ينهَى، يُؤجَر ويُثاب على أمره ونهيِه، ويعاقَب ويؤنَّب على تقصيره. هذا مذهب أهل السنة قاطبة، وهو الذي يؤيده الدليلُ ويطلبه الواقع.

قال تعالى: ﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ* كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ* ﴾ (المائدة ٨٧-٩٧). فالذم لترْكهِمُ النهىَ. وقال رسول الله : “إن أولَ ما دخل النقصُ على بنى إسرائيل كان الرجلُ أولَ ما يلقى الرجلَ فيقول: يا هذا اتق اللهَ، ودعْ ما تصنع فإنه لا يحل لك. ثم يلقاه من الغد فلا يمنعُه ذلك أن يكون أكيلَه وشريبَه وقعيدَه. فلما فعلوا ذلك ضربَ اللهُ قلوبَ بعضِهم ببعض، ثم قال: ﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْرَائِيلَ ﴾ إلى قوله: ﴿ فَاسِقُونَ ﴾؛[3] ثم قال: 'كلا، لتأمُرُنَّ بالمعروف ولتنهَوُنَّ عن المنكر، ولتأخُذُنَّ على يد الظالم، ولتأطُرُنَّه على الحق أَطْرًا (تعطفونه عليه)، ولتَقْصُرُنَّه على الحق قَصْرًا، أو لَيضربَنَّ اللهُ بقلوبِ بعضِكم على بعض، وليلعنَنَّكم كما لَعَنَهُم.'” رواه أبو داود.[4]

وقال حُذَّاقُ أهلِ العلم: ليس من شروط الناهى أن يكونَ سليمًا من المعصية، بل ينهى العصاةُ بعضُهم بعضًا. وقال بعضُ الأصوليين: فرضٌ على الذين يتعاطَون الكؤوسَ أن ينهى بعضُهم بعضًا: وعلى مدير الكاس أن ينهى الجُلّاس.

قال ابن رجب الحنبلىّ رحمه الله: “فلا بدَّ للإنسان من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والوعظ والتذكير. ولو لم يعظْ إلا معصومٌ من الزلل لم يعظِ الناسَ بعد رسول الله أحد، لأنه لا عصمةَ لأحد بعده.” وقيل للحسَن البِصرىّ: إن فلانًا لا يَعِظُ ويقول: أخاف أن أقولَ ما لا أفعلُ. فقال الحَسن: “وأيُّـنا يفعلُ ما يقول؟! وَدَّ الشيطانُ أنه ظَفر بهذا، فلم يأمرُ أحدٌ بمعروف ولم يَنْهَ عن منكر.”

وقال الخليل بن أحمدَ رحمه الله:

اِعمَلْ بعِلْمِى وإن قَصَّرْتُ فى عَمَلِى ينفعْكَ عِلْمِى ولا يَضْرُرْكَ تَقْصِيرِى

أقول قولىَ هذا وأستغفر الله لى ولكم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد. عباد الله اتقوا الله.

ثم إنه لا شك أن الأكملَ، والأفضلَ، والأجدى، والأنفعَ فى الأمر والنهْى أن يأتمرَ الإنسانُ بما يأمر به، وينتهِىَ عما ينهى ويُنكرَ. فهنا واجبان: واجبُ أداء الفرائض وواجبُ اجتناب المحرمات، ثم واجبُ الأمرِ بأداء الواجبات وواجبُ النهْىِ عن المحرمات. لا يُخِلُّ المرءُ بأىّ منها. ومتى كان الآمر بالمعروف والناهى عن المنكر مُتَخَلّـِقًا بذلك كان لكلامه وقعٌ فى قلوب الناس. وإن لم يكُ مُتَخَلّـِقًا بذلك فحالُه يكون كما قال الإمامُ ابن الجوزى رحمه الله: “ومتى لم يعملِ الواعظُ بعلمِه زلّتْ موعظتُه عن القلوب كما يزِلّ الماءُ عن الحجر.”

نسأل الله أن يجعلنا ممن يفعلون ما يقولون من الخير وممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات.

الجمعة فلادلفيا ٦ صفر ١٤٣٣ هـ - ٣٠ ك١ ٢٠١١


[1] الأظهر أنه يدور -بسبب ألم خروجها منه- حوله دوران الحمار حول الرحى بسببها. ابن علان ٨٩٢/٢.

[2] وتأتِىَ مثله. الواو واو عطف ومعية مبنىّ على الفتح لا محل له من الإعراب. تأتىَ فعل مضارع منصوب بأنْ مضمرة وجوب وتقديره: لا يكن منك نهىٌ عن خلق وإتيانُ مثله.

[3] ﴿ تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِى الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِىّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81) ﴾

[4] وصديقُ الإنسان ومحبُّه هو من سعى في عمارة ءاخرته، وإن أدى ذلك إلى نقص فى دنياه. وعدوُّه من يسعى فى ذهاب أو نقص ءاخرته، وإن حصل بسبب ذلك صورة نفع في دنياه. وإنما كان إبليس عدوًّا لنا لهذا. وكانت الأنبياء عليهم السلام أجمعين أولياء للمؤمنين لسعيهم فى مصالح ءاخرتهم وهدايتهم إليها.

Share this post

Submit to DiggSubmit to FacebookSubmit to Google PlusSubmit to StumbleuponSubmit to TwitterSubmit to LinkedIn

Search our site

Listen to the Qur'an

Click

كيف يدخل غير المسلم في الإسلام

يَدخل غيرُ المسلم في الإسلام بالإيمان بمعنى الشهادتين وقولِهِما سامعًا نفسَه بأيّ لغةٍ يُحسنها.

وإن أراد قولَهما بالعربية فهما:

أَشْهَدُ أَنْ لا إلَـهَ إلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله

وَهَذا هو التسجيل الصوتي للشهادتين اضغط

A.I.C.P. The Voice of Moderation