الحِكْمَة: حكمة أولياء الله رَضِىَ الله عَنهم - جزء 3
الحمد لله العزيز الحكيم* والصلاة والسلام على نبيّه محمدٍ الكريم* وعلى ءاله وصحبه ذَوِى القلب السليم* وبعد عباد الله اتقوا اللهَ. قال تعالى: ﴿ يَــأيُّـهَا الذّينَ ءَامـَنـُوا اتـَّـقـُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاتمُوتُنَّ إِلاَّ وَأنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ (ءال عمران، ١٠٢).
ثم إنا ذكرنا فى الخطب السابقة أن هناك سورةً فى القرءان تسمى سورة لقمان (٣١)، رجلٍ ولىّ حكيمٍ. وفيها ذكرُ وعْظِه لابنه. قال عَزَّ وجلَّ: ﴿وَإذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَىَّ لا تُشْرِكْ بالله إنَّ الشّـِرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ* وَوَصَّيْنَا الْإنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فى عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِى وَلِوَالِدَيْكَ إلَىَّ الْمَصِيرُ* وَإن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فى الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إلَىَّ ثُمَّ إلَىَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبّـِئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ* يَا بُنَىَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِى صَخْرَةٍ أَوْ فِى السَّمَوَاتِ أَوْ فِى الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ* ﴾ ١٣-١٦. والآن حينُ الشروع فى إكمال ذكر وعظ لقمان لابنه كما فى القرءان:
Click to listen to this Friday speech in English: Hikmah of Luqman - Part 3
﴿يَا بُنَىَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ ﴾ ١٧
وصَّى لقمانُ ابنَه بعُظم الطاعات وهى الصلاة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. وهذا إنما يريد به بعد أن يمتثل ذلك هو فى نفسه ويزدجر عن المنكر. وأحسَنَ من قال: وابدأ بنفسك فانهَها عن غَيّـِها فإذا انتهَت عنه فأنت حكيم.
﴿ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ* ﴾ ١٧ يقتضى حضًّا على تغيير المنكر وإن نالك ضرر على جهة الندب لا اللزوم. قال ابن جريج: إن إقامةَ الصلاة والأمرَ بالمعروف والنهىَ عن المنكر مما عزمه الله وأمر به. وقيل: أمَرَه بالصبر على شدائد الدنيا كالأمراض وغيرها، وألَّا يخرج من الجزع إلى معصية الله عز وجل. وهذا قول حسن لأنه يعمّ. قال ابن عباس: من حقيقة الإيمان الصبرُ على المكاره.
﴿ وَلا تُصَعّـِرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ ﴾ ١٨ أى لا تُمِلْ خدَّك للناس ولا تُعْرض عنهم تكبُّرًا عليهم واحتقارًا لهم. فالمعنى: أقبِلْ عليهم متواضعا مؤنسا مستأنسا. وإذا حدَّثك أصغرُهم فأَصغِ إليه حتى يُكمِلَ حديثَه، كما كان النبىّ صلى الله عليه وسلم يفعل. ومن هذا المعنى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ”ولا تَدَابروا“ رواه مالك. فالتدابرُ الإعراضُ وتركُ الكلامِ والسلامِ ونحوِه. وإنما قيل للإعراض تدابر لأن المتباغضَين يُعرضان عن بعضهما البعض مولّـِيَينِ دبرَهما. فمعنى التدابر موجود فيمن صعَّر خده.
قوله تعالى: ﴿ وَلا تَمْشِ فِى الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ* ﴾ ١٨ أى متبخترا متكبرا.[1] وأهل هذا الخُلق ملازمون للفخر والخيلاء. فالمرِح مختال فى مشيته. والفخور: هو الذى يعدّد ما أُعطِىَ ولا يشكر اللهَ تعالى. قال صلى الله عليه وسلم: ”مَن جَرَّ ثوبَه من الخُيَلاء لم ينظُرِ اللهُ إليه يوم القيامة.“ رواه مسلم.[2]
أقول قولىَ هذا وأستغفر اللهَ لى ولكم.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد عباد الله اتقوا الله.
لما نهاه عن الخلُق الذميم رَسَمَ له الخُلُقَ الكريمَ الذى ينبغى أن يستعملَه فقال: ﴿ وَاقْصِدْ فِى مَشْيِكَ﴾ ١٩ أى توَسَّطْ فيه ما بين الإسراع والبطء. وقد مدَح الله سبحانه مَن هذه صفتُه فى سورة الفُرقان: ﴿ يَمشُون على الأرض هَوْنًا ﴾ أى بسَكينة ووَقار. وجاء فى حديث صحيح عند ابن عساكر عن ابن عباس رضى الله عنهما: ”أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم كان يمشى مشيًا يُعرف فيه أنه ليس بعاجزٍ ولا كسلان.“ فإن الماشىَ إما أن يتماوَتَ فى مشيه ويمشىَ قطعة ًواحدة كأنه خشبةٌ محمولة، وهى مِشيةٌ مذمومةٌ قبيحة. وإما أن يمشىَ بانزعاج واضطراب تجد أن كل شىء يتحرك فيه وهو يمشى، فهذه مِشية الأهوج وهى مِشيةٌ مذمومة أيضا. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ”سرعةُ المَشىِ تُذهِب بَهاءَ المؤمن.“[3]
قوله تعالى: ﴿ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ* ﴾ ١٩ أىُ انقُص منه فلا تتكلف رفعَ الصوت وخذ منه ما تحتاج إليه؛ فإن الجهرَ بأكثر من الحاجة تكلُّفٌ يؤذِى. والمراد بذلك كلُّه التواضع. وقد قال عمر لمؤذّنٍ (أبى محذورة)[4] تكلَّفَ رفعَ الأذان بأكثر من طاقته: لقد خشيتُ أن ينشقَّ مُرْيَطاؤك (ما بين السرة إلى العانة[5]).
﴿ إنَّ أنكَرَ الأصواتِ لَصَوتُ الحَميرِ* ﴾ ١٩ أى أقبحُها وأوحشُها. ومنه أتانا بوجه منكر (قبيح). والحمار مَثَلٌ فى الذَّمّ البليغ والشتيمة، وكذلك نُهاقه. ومن استفحاشهم لذكره مجرَّدًا أنهم يَكنون عنه ويرغَبون عن التصريح فيقولون: الطويلُ الأذنين كما يُكنَى عن الأشياء المستقذرة. وقد عُدَّ فى مساوئ الآداب أن يَجرىَ ذكرُ الحمار فى مجلس قوم من أولِى المروءة. ومن العرب من لا يركب الحمارَ استنكافا (أنَفةً وامتناعا). وورد فى الصحيحين أنه عليه الصلاة والسلام ركب الحمارَ (اسمه يعفور) تواضعا وتذللا لله تبارك وتعالى.
فى الآية دليل على تعريف قبح رفع الصوت فى المخاطبةِ والملاحاةِ (المُلاوَمةِ والمُباغضةِ) بقبح أصوات الحمير لأنها عالية. وفى الصحيحين عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: ”وإذا سمعتم نهيقَ الحمار فتعوَّذوا بالله من الشيطان فإنه رأى شيطانا.“ وهذه الآية أدب من الله تعالى بترك الصياح فى وجوه الناس تهاونا بهم، أو بترك الصياح جملة. وكانت العرب تفخر بجهارة الصوت. فمن كان منهم أشدَّ صوتا كان أعزَّ، ومن كان أخفضَ كان أذلّ. فنهى الله سبحانه وتعالى عن هذه الخلق الجاهلية بقوله: ﴿ إنَّ أنكَرَ الأصواتِ لَصَوتُ الحَميرِ* ﴾ أى لو أن شيئا يُهاب لِصَوتِه لكان الحمار. فجعلهم فى المثل سواء.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات.
خطبة الجمعة فيلادلفيا ٢٣ شوال ١٤٣٤ هـ * ٣٠ ءاب ٢٠١٣ ر
[1] قال تعالى: ﴿ وَلَا تَمْشِ فِى الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا كُلُّ ذَٰلِكَ كَانَ سَيّـِئُهُ عِندَ رَبّـِكَ مَكْرُوهًا ﴾ (الإسراء ٣٧-٣٨). قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَمْشِ فِى الْأَرْضِ مَرَحًا ﴾ هذا نَهْىٌ عن الخيلاء وأمرٌ بالتواضع. والمرح هو الخيلاء والتكبر فى المشى؛ وتجاوُز الإنسان قدرَه؛ والبطر والأشر وهذا مذموم. أى لن تخرق الأرض بكبْرك ومشْيك عليها ولن تبلغ الجبال طولا بعظمتك أى بقدرتك لا تبلغ هذا المبلغ. بل أنت عبد ذليل، محاط بك من تحتك ومن فوقك. والمحاط محصور ضعيف، فلا يليق بك التكبر.كل ذلك كان سيئةً وكان مكروها.
[2] قصة قارون فى خطبة قادمة
[3] رواه أبو نعيم فى الحلية عن أبى هريرة بهذا اللفظ وبلفظ: ”السرعة فى المشى تُذهب بهاءَ المؤمن.“ ورواه الخطيب فى الجامع والديلمى فى مسند الفردوس عن ابن عمر وابن النجار عن ابن عباس. كنز العمال. وكان صلى الله عليه وسلم: ”إذا مشَى لم يتلفت“ رواه الحاكم وهو حديثٌ صحيح. لأنه كان يواصل السيرَ ويترك التوانىَ والتوقف. والالتفات للحاجة لا بأس به، لكن ليس تلفتَ المتفرجين الذي يبطئ السير. والنبىّ صلى الله عليه وسلم كان إذا مشى لحاجة مشى ومضى وعزم؛ ولم يكن يتباطأ فى مشيته ولم يلتفت. فإذا لم تكن حاجة للتلفت فمن الأدب ألا يتلفت الإنسان فى مشيته وهو يمشى. روى الطبرانى فى الكبير أنه عليه الصلاة والسلام: ”كان إذا مشى أقلع.“ أى مشى بقوة، كأنه يرفع رجليه من الأرض رفعًا قويًّا. وجاء فى الحديث الصحيح: ”كان صلى الله عليه وسلم إذا مشى كأنه يتوكأ.“ رواه أبو داود والحاكم. قال الأزهرىّ: الاتكاء يكون بمعنى السعى الشديد. فهو إذا مشى صلى الله عليه وسلم كانت خطواته جادة، كأنما ينحدر من صبب (مشى فى موضع منحدر). وكان أشبهَ الناس بمِشية النبىّ صلى الله عليه وسلم ابنتُه فاطمةُ رَضِىَ اللّهُ عَنها. فقد جاء فى صحيحَىِ البخارىّ ومسلم عن عائشة قالت: ”كنا أزواجَ النبىّ صلى الله عليه وسلم عنده لم يغادر منهن واحدة. فأقبلت فاطمةُ تمشى ما تخطئ مشيتُها من مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا.“
[4] أبو محذورة أسلمَ بعد حُنَين. علّمه الرسول الأذانَ وأمره بالأذان فى المسجد الحرام فى مكة. توفّىَ فى مكة المكرمة عام ٥٩ للهجرة.
[5] عانة الإِنسان: الشعرُ النابتُ على فرجه، وقيل: هى مَنْبِتُ الشعر هنالك.