بيانُ أهمّيّةِ المذاهبِ الأربعةِ
إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستهديهِ ونشكرُه ونستغفرُه ونتوبُ إليهِ، ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أنفسِنا ومِنْ سيِّئاتِ أعمالِنا، مَنْ يهدِ اللهُ فَلا مُضلَّ لهُ ومَن يُضللْ فَلا هاديَ لهُ.
وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ ولا مَثِيلَ لَهُ، ولا ضِدَّ ولا نِدَّ لَهُ، وَلا شَكْلَ وَلا صُورَةَ لَهُ، وَلا جِسْمَ وَلا أَعْضَاءَ لَهُ، ولا حَيِّزَ ولا مَكانَ لهُ. تنَزَّهَ اللهُ الخالِقُ العظيمُ عَنِ الجِسْمِ وَعَنْ صِفَاتِ الجِسْمِ، وَتَنَزَّهَ عَنِ المَكانِ فهو سبحانَهُ وتعالَى مَوْجُودٌ بلا مَكانٍ ولا يَجْرِي عَلَيهِ زَمَان، وقد صدَقَ اللهُ تعالَى بِقولِه ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ، اللهُ لصَّمَدُ ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد﴾. سورة الإخلاص. وأشهدُ أنَّ سيدَنا وحبيبَنا وعظيمَنَا وقائِدَنا وقُرَّةَ أعيُنِنَا مُحَمَّدًا عبدُهُ ورسولُهُ وَصَفِيُّهُ وحبيبُهُ، من بَعَثَهُ اللهُ رحمةً للعالَمِينَ هَادِيًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، فَبَلَّغَ الرسالةَ وأَدَّى الأَمانَةَ وَنَصَحَ الأمّةَ، فجزاكَ اللهُ عنا يا سَيِدي يا رسولَ اللهِ خيرَ ما جزى نبيًا من أنبيائِهِ.
اللهم صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ صلاةً تَقْضِي بِهَا حَاجَاتِنا، اللهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ صلاةً تُفَرِّجُ بِهَا كُرُباتِنا، اللهمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلاةً تكفِينَا بِها مَا نَتَخَوَّفُ وَسَلِّمْ عليهِ وَعَلى إخوانِه النَّبِيِّيـنَ وَالْمُرْسَلِينَ سَلامًا كَثيرًا.
أما بعدُ عِبَادَ اللهِ، فَإِنِّي أوصيكم ونفسي بتَقْوَى اللهِ العَلِيِّ القَديرِ وَبِالثَّباتِ عَلَى نَهْجِ رَسُولِ اللهِ محمَّدٍ الصَّادِقِ الوَعْدِ الأَمِينِ وَبِالسَّيرِ عَلَى دَرْبِ العُلَمَاءِ الأَجِلاَّءِ الذِينَ حَمَلُوا هذا الدِّينَ العظيمَ وَبَلَّغُوهُ للناسِ، وخَلَّفُوا لَنَا ثَرْوَةً عظيمَةً بَلْ كُنُوزًا وَدُرًرًا مُضِيئَةً في جَمِيعِ فُنُونِ العُلُومِ النافِعَةِ للمُجْتَمَعِ الإسلامِيِّ، فَمِنْ هَؤُلاءِ الأَئِمَّةِ الأَعْلامِ الإِمَامُ مَالِكٌ بنُ أنَسٍ وأبو حَنِيفَةَ النُّعْمَانُ بْنُ ثَابِتٍ وأَبُو عَبْدِ اللهِ محمدُ بنُ إدريسَ الشافعيُّ وأبو عَبْدِ اللهِ الشَّيْبَانِيُّ أحمَدُ بنُ محمدِ بنِ حَنْبَلٍ رَضِي الله عنهُمْ وَنَفَعَنَا بِهِمْ وَأَمَدَّنَا بِأَمْدَادِهِمْ، هؤلاءِ الأَئِمَّةُ بَلَغُوا رُتْبَةَ الاجتِهَادِ فَنَفَعُوا الناسَ بعُلومِهِم وَاجْتِهَادَاتِهِم. وَمَا أَحْوَجَنا اليَوْمَ أيها الإِخْوَةُ إلَى الرُّجوعِ إلى فَتَاوَى هؤلاءِ الأَئِمَّةِ الْمُعْتَبَرِينَ والسَّيْرِ بِمَا يُوافِقُ مذاهِبَهُم وَنَحْنُ في زَمَنٍ نَسْمَعُ وَنَرى في وَسَائِلَ إعلامِيَّةٍ مِنْ تلفزيوناتٍ وَمَا يُسَمَّى فَضَائِيَّاتٍ وَإذاعَاتٍ وَجَرائِدَ وإِنْتَرنِت ونحوِ ذلك، نرَى ونَسْمَعُ فَتَاوَى شَذَّتْ عَمَّا أَفْتَاهُ أَئِمَّةُ المذاهِبِ المُعْتَبَرَةِ ونَقَضَتِ الإِجْمَاعَ وَعَمَّتِ الفَوْضَى وصارَ كَثِيرٌ مِمَّنْ يَتَصَدَّرُونَ لِلْفَتْوَى في هذِهِ الوَسَائِلِ الإِعْلامِيَّةِ في سِيَاقِ الإجابَةِ على أسئِلَةِ المُشَاهِدِينَ وَطَرْحِ الأَجْوِبَةِ عَلَيْهَا أو في بَرَامِجَ تَحْتَ مُسَمَّى الدِّينِ وَالفَتْوَى وَالشَّرِيعَةِ يَبُثُّونَ سُمُومًا وَفَتَاوَى مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلطَانٍ وَيَتَكَلَّمُونَ فِيهَا وَقَدْ ظَنُّوا بأنفُسِهِمْ أَنَّ لَهُمْ حَقَّ الاجتِهَادِ وَهُمْ مَا بَلَغُوا أَصْلاً رُتْبَةَ طَالِبِ عِلْمٍ.
والاجتِهادُ إخوَةَ الإِيمانِ هُوَ اسْتِخْرَاجُ الأَحْكَامِ التِي لَمْ يَرِدْ فيهَا نَصٌّ صَرِيحٌ لا يَحْتَمِلُ إلاَّ مَعْنًى واحِدًا مِنَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أي أَنَّ هذَا الْمُجْتَهِدَ بَلَغَ رُتْبَةً في العِلْمِ تُؤَهِّلُهُ أَنْ يَسْتَخْرِجَ الأحكامَ مِنَ القرءانِ وَالحَديثِ أي الأحكام التي لَمْ يَرِدْ فيهَا نَصٌّ صريحٌ، أما مَا وَرَدَ فيهِ نَصٌّ صريحٌ فلا مَجَالَ للاجتِهادِ فيهِ، لذلكَ قالَ بَعْضُ المجتَهِدِينَ وهو أبو بَكْرٍ بنُ المنذِرِ "إِذَا جَاءَ الخَبَرُ ارْتَفَعَ النَّظَر".
ويعنِي بِالخَبَرِ النصَّ القُرءانِيَّ والنصَّ الحديثِيَّ، فَإِنْ قُلْنَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أو مَذهَبُ مالِكٍ أو مذهَبُ أبي حنيفَةَ أو أحمدَ بنِ حَنْبَلٍ ، فالمُرادُ مَا ذَهَبَ إليهِ مِنَ الأَحْكَامِ في المسائِلِ أي فيمَا قَرَّرَهُ مِنَ الأَحْكَامِ.
فإذًا المجتهدُ له شُروطٌ لا بدَّ أَنْ تَجْتَمِعَ بهِ لِيَكُونَ عندَهُ الأَهْلِيَّةُ لِلاجتِهادِ، والاجتِهادُ لا يكونُ فيمَا وَرَدَ فيهِ نَصٌ صريحٌ، فاختِلافُهُم رحِمَهُمُ اللهُ تعالَى في غيرِ المنصُوصِ عليهِ وَالْمُجْمَعِ عليهِ كاختِلافِ الشَّافِعِيِّ وأبي حنيفةَ في مَسأَلَةِ نَقْضِ مَسِّ الرَّجُلِ الْمَرْأةَ الأجنَبِيَّةَ بلا حَائِلٍ الوُضوءَ ولكن كُلُّهُم قالُوا حَرامٌ أي مَسُّ المرأةِ الأَجْنَبِيَّةِ أَيْ غيرِ المحرَمِيَّةِ بلا حَائِلٍ حَرَامٌ ولكن في مَسألَةِ نَقْضِ الوُضُوءِ، الشافعيُّ قال يَنْتَقِضُ الوضوءُ وأبو حنيفَةَ قالَ لا ينتقِضُ.
أما الْمَنْصُوصُ عليهِ فَهَذَا لا يَحِلُّ الاختِلافُ فيهِ كَتَحْرِيمِ الزِّنَى واللواطِ وكفَرْضِيَّةِ الصَّلَوَاتِ الخَمْسِ وَصِيَامِ رَمَضَانَ فَلَوْ وَاحِدٌ قالَ الصَّلَوَاتُ المَفْرُوضَةُ أربعَةٌ وليست خَمْسَةً هل هَذَا يُؤْخَذُ بِكَلامِه؟ لا، هَذا لا عِبْرَةَ بِكلامِهِ، ولو وَاحِدٌ قالَ المفروضُ علَيْنَا صِيامُ شَعْبَانَ وَلَيْسَ رمضانَ أيضًا هذا لا عِبْرَةَ بِكَلامِهِ، فَالاجْتِهَادِ مَشْرُوعٌ لأهلِهِ وَلَيْسَ لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفرادِ المسلمينَ وَإِلاَّ لَضَاعَ الدِّينُ والفَوْضَى لا تَلِيقُ بالدِّينِ. قَالَ الأَفْوَهُ الأَوْدِيُّ:
لا يَصْلُحُ النَّاسُ فَوْضَى لا سَراةَ لهم ولا سَراةَ إذَا جُهَّالُهُمْ سَادُوا
ولقَدْ قَيَّضَ اللهُ تعالَى لِخِدْمَةِ دِينِهِ علماء أُمَنَاء مُتَّقِينَ وَرِعينَ وَأَمَرَ بِالرُّجوعِ إليهِمْ في أمرِ دينِهِمْ فقالَ سُبْحَانَهُ وَتعَالَى ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ سورة النحل/43.
وَمِنْ هؤلاءِ أَصْحَابُ المذاهِبِ الأربَعَةِ الشافعيُّ ومالكٌ وأبُو حنيفَةَ وأحمَدُ بنُ حنبلٍ الذينَ كانُوا كُلُّهم على عَقِيدَةِ التَّنْزِيهِ وَالتَّوْحِيدِ أَيْ أَنَّ اللهَ وَاحِدٌ لا شَرِيكَ لهُ ولَيْسَ جِسْمًا وَلا يُوصَفُ بِصِفَاتِ الجِسْمِ وأنَّ اللهَ تعالَى أَزَلِيٌّ أَبَدِيٌّ لا بِدَايَةَ لِوُجودِهِ ولا نِهَايَةَ كذلك صِفَاتُهُ سبحانَهُ وتعالَى أزليَّةٌ أبدِيَّةٌ لا بِدَايَةَ لَهَا وَلا نِهَايَةَ ولا شَكَّ أنَّهم كانُوا عَلَى عَقِيدَةِ أَنَّ الأَنْبِيَاءَ يَنْفَعُونَ قَبْلَ مَوْتِهِمْ بِإِذْنِ اللهِ وينفَعُونَ بَعْدَ موتِهِمْ بِإِذْنِ اللهِ وأَنَّهُ يَجُوزُ التَّبَرُّكُ بِآثَارِهِمُ الشريفَةِ وَالتَّوَسُّلِ بِهم، فَهَنِيئًا لِمَنْ سَارَ عَلَى دَرْبِهِمْ بالزُّهْدِ والتَّقْوَى وَالوَرَعِ وَالخَوْفِ الشَّدِيدِ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَبِالاغتِرَافِ مِنْ عِلْمِ الدِّينِ، فلقَدْ قالَ سيدُ المرسَلِينَ صلى الله عليه وسلم "لا يَشْبَعُ مؤمِنٌ مِنْ خَيْرٍ يَسْمَعُهُ حَتَّى يَكُونَ مُنْتَهَاهُ الجَنَّةَ".
اللهمَّ فَقِّهْنَا فِي دِينِنَا وَعَلِّمْنا مَا يَنْفَعُنَا وَانْفَعْنَا بِمَا عَلَّمْتَنَا وَزِدْنَا عِلْمًا يَا رَبَّ العَالَمِينَ.
هذا وأستغفِرُ اللهَ لي ولكُمْ .
الخُطبةُ الثانيةُ
إنّ الحمدَ للهِ نحمَدُهُ ونستعينُهُ ونستهْدِيهِ ونشكُرُهُ ونستغفرُهُ ونتوبُ إليهِ ، ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أنفُسِنا ومنْ سيّئاتِ أعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لهُ ومَنْ يُضْلِلْ فلا هادِيَ لهُ. والصّلاةُ والسّلامُ عَلَى سيِّدِنا محمّدِ رَسُولِ اللهِ وعلى ءالِهِ وصحبِهِ ومَنْ والاهُ .
أَمّا بَعْدُ عِبادَ اللهِ، فَإني أوْصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ العَلِيِّ القَديرِ القائلِ في مُحْكَمِ كتابِهِ: ﴿وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ الآية. سورة ءال عمران/185.
واعلَموا أنَّ اللهَ أمرَكُمْ بأمْرٍ عظيمٍ أمرَكُمْ بالصلاةِ والسلامِ على نبيِهِ الكريمِ فقالَ: ﴿إنَّ اللهَ وملائكتَهُ يصلُّونَ على النبِيِّ يَا أيُّهَا الذينَ ءامَنوا صَلُّوا عليهِ وسَلّموا تَسْليمًا﴾ سورة الأحزاب/56. اللّـهُمَّ صَلّ على سيّدِنا محمَّدٍ وعلى ءالِ سيّدِنا محمَّدٍ كمَا صلّيتَ على سيّدِنا إبراهيمَ وعلى ءالِ سيّدِنا إبراهيمَ وبارِكْ على سيّدِنا محمَّدٍ وعلى ءالِ سيّدِنا محمَّدٍ كمَا بارَكْتَ على سيّدِنا إبراهيمَ وعلى ءالِ سيّدِنا إبراهيمَ إنّكَ حميدٌ مجيدٌ، يقول الله تعالى: ﴿يا أيها النَّاسُ اتَّقُـوا رَبَّكُمْ إنَّ زلزَلَةَ السَّاعَةِ شىءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرْونَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيد﴾ سورة الحج.
اللّـهُمَّ إنَّا دعَوْناكَ فاستجبْ لنا دعاءَنا فاغفرِ اللّـهُمَّ لنا ذنوبَنا وإسرافَنا في أمرِنا اللّـهُمَّ اغفِرْ للمؤمنينَ والمؤمناتِ الأحياءِ منهُمْ والأمواتِ ربَّنا ءاتِنا في الدنيا حسَنةً وفي الآخِرَةِ حسنةً وقِنا عذابَ النارِ اللّـهُمَّ اجعلْنا هُداةً مُهتدينَ غيرَ ضالّينَ ولا مُضِلينَ اللّـهُمَّ استرْ عَوراتِنا وءامِنْ روعاتِنا واكفِنا مَا أَهمَّنا وَقِنا شَرَّ ما نتخوَّفُ. عبادَ اللهِ إنَّ اللهَ يأمرُ بالعَدْلِ والإحسانِ وإيتاءِ ذِي القربى وينهى عَنِ الفحشاءِ والمنكرِ والبَغي ، يعظُكُمْ لعلَّكُمْ تذَكَّرون . اذكُروا اللهَ العظيمَ يُثِبْكُمْ، واستغفروه يغفِرْ لكُمْ، واتّقوهُ يجعلْ لكُمْ مِنْ أمرِكُمْ مخرَجًا، وَأَقِمِ الصلاةَ.