Friday, 29 March 2024
A+ R A-

درس احتفال رأس السنة الهجرية

الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ والصلاةُ والسلامُ على سيِّدِنا محمدٍ النبيِّ الأميِّ الأمينِ العظيمِ القدرِ العالِي الجاه وعلى ءالِه وأصحابِه ومن وَالاه وبعد، أيها الحفلُ الكريمُ، السلامُ عليكم ورَحمةُ اللهِ وبركاتُه

بعدَ ثلاثَ عَشرةَ سنةً من مَبْعَثِ النبِيِّ صلى الله عليه وسلم قضاهُنَّ في الدعوةِ إلى دينِ اللهِ تبارَكَ وتعالى أُذِنَ لهُ بالهجرةِ إلى يَثْرِب، وكانَ قبلَ ذلكَ أُوذِيَ أذًى شَديدًا وأُوذِي أصحابُه الكرامُ في مكةَ وأُوذِي ياسرٌ وزوجُه سُمَيَّةُ وابنُه عمارٌ وكانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَمُرُّ بِهِم وهم يُعَذَّبونَ ويقولُ: اللهمَّ اغْفِرْ لآلِ ياسرٍ.

وانْصَبَّ أَنْوَاعُ العذابِ على المُسْتَضْعَفِينَ صَبًّا، وتَجَرَّعُوا مَرارَاتِ الصَّبرِ على أنواعِ العَذابِ مِنَ المشركينَ إلى أن جاءَ الأمرُ الإلهيُّ بالهجرةِ إلى المدِينةِ المنوَّرةِ التي نوَّرها اللهُ تعالى بِنورِ النبيِّ عليه الصلاةُ والسلامُ فخَرَجُوا فِرَارًا بِدينِهم مِنْ أَذَى المشرِكِينَ، خرَجُو جَماعاتٍ مُتَتَابِعينَ، ووحدَانا وَفُرادَى، تَنْفِيذًا لأمرِ اللهِ تعالَى. تَعَالَوا بعدَ ذلكَ معاشِرَ السادةِ الحضورِ لنَتَحَدَّثَ عن قصةِ هِجْرَةِ النبيِّ الأعظمِ صلى الله عليه وسلم ومعَهُ صاحِبُه الصِدّبقُ رضي الله عنه.

لقد رَوَى علماءُ السِّيرِ أنَّ أبا بكرٍ الصديقَ رضيَ اللهُ عنه لما وَجَدَ إخوانَه المسلِمينَ قد تتابعُوا مُهاجِرينَ إلى المدينةِ المنورةِ، جاءَ هو الآخرُ يستأذِنُ حَبِيبَه رسولَ اللهِ صلواتُ ربِّي وسلامُه عليه في الهجرةِ، فقالَ له النبيُّ العظيمُ صلى الله عليه وسلم: "على رِسْلِكَ، فَإِنِّي أَرجو أن يُؤْذَنَ لِي"، فقالَ أبو بكرٍ: "وهل تَرجُو ذلكَ بأبِي أنتَ وأمِّي"؟ فقال عليه الصلاةُ والسلام: "نعم"، فحَبَسَ أبو بكرٍ رضي الله عنه نفسَه على رسولِ اللهِ لِيَصْحَبَ حبيبَه المصطفى في هذه الهجرةِ المباركةِ، وعَلَفَ راحِلَتَيْنِ كانَتا عِنْدَه وأَخَذَ يَتَعَهَّدُهُما بِالرِّعَايَةِ أَرْبَعَةَ أَشهُرٍ، وفي هذهِ الأَثناءِ رأتْ قريشُ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم صارَ له أَنصَارٌ وأصحابٌ مِنْ غَيْرِهم بِغَيْرِ بَلَدِهِم، وخافُوا خُروجَ رسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إليهِم فَاجْتَمَعُوا لِهذا الأمرِ الذي أهَمَّهُم في دارِ النَّدْوَةِ حَيْثُ كانَتْ قرَيشٌ لا تَقْضِي أَمْرًا إِلا فيهِ وصاروا يَتَشَاوَرونَ فِيمَا يَصْنَعُونَ بِأَمْرِ الرَّسولِ، واجتَمَعَ رَأْيُهم أَخِيرًا على قَتْلِ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وكانَتْ مُؤامَرَتُهم تَقْضِي أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ كُلِّ قبيلةٍ شَابًّا قَوِيًّا جَلْدًا، ثُمَّ يُعطَى كُلٌّ منهم سَيْفًا صارِمًا، ثم يَعمِدُوا إليهِ فيضرِبوهُ ضربةَ رجلٍ واحدٍ فيقتُلوهُ ويتفرقُ دمُه بينَ القبائلِ ولا يَقْدِرُ عَشِيرَتُه بَنُو عبدِ مَنافٍ على حَرْبِهِم جميعًا.

وأَتَى جبريلُ عليهِ السلامُ مَلَكُ الوحيِ وأخبرَه بكَيْدِ المشركينَ وأمرَهُ بأَنْ لا يَبِيتَ في مَضْجَعِهِ وفِراشِه تلكَ الليلةَ. ولما جاءَ الإِذنُ والأمرُ من اللهِ تعالى لرسولِه صلى الله عليه وسلم بالخروجِ والهجرةِ إلى المدينةِ المنورةِ المباركةِ انطَلَقَ النبيُّ الأعظمُ صلى الله عليه وسلم إلى منـزِلِ رفيقِه وحبيبِهِ أبي بكرٍ رضي الله عنه لِيكونَ صاحبَه في هذه الرحلةِ المَيْمُونَةِ والهجرةِ المباركةِ. تقولُ السيدةُ الجليلةُ عائشةُ رضي الله عنها زَوجُ النبيِّ الأعظمِ عليه الصلاةُ والسلامُ: "بَيْنَا نحنُ يَوْمًا جُلُوسٌ في بيتِ أبي بكرٍ في حَرِّ الظَّهِيرَةِ، قالَ قائِلٌ لأبي بكرٍ رضي الله عنه: "هذا رسولُ اللهِ مُتَقَنِّعًا، في ساعَةٍ لم يَكُنْ يَأْتِينَا فِيها". فقالَ أبو بكرٍ: "فِدا له أبِي وأُمِّي، واللهِ ما جاءَ بهِ في هذهِ السَّاعَةِ إلا أَمرٌ"، قالت عائشةُ رضي الله عنها: فجاءَ رسولُ اللهِ فَاسْتَأْذَنَ، فَأُذِنَ لَهُ، فَدَخَلَ، فقالَ النبيُّ لأبي بكرٍ: "أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ"، فقالَ أبو بكرٍ: إنما هم أَهْلُكَ بأبِي أنت يا رسولَ اللهِ"، فقالَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ: "فَإِنِّي قد أُذِنَ لي بالخروجِ". فقالَ الصديقُ أبو بكرٍ رضي الله عنه وكلُهُ شوقٌ وهُيامٌ ووَلَعٌ بحبيبِه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: "الصُّحْبةَ يا رسولَ اللهِ"، فقالَ رسولُ اللهِ: "نعم".

قالت عائشةُ رضي الله عنها: "فجَهَّزناهُما أَحَثَّ الجِهاز، وصنَعْنَا لهما سُفْرَةً في جِرَابٍ، وهو وِعاءِ الزَّادِ". وشَقَّتْ أسماءُ بِنتُ أبي بكرٍ رضيَ الله عنها نِطاقَها قِطْعتَينِ فأَوْكَأَتْ بِقِطْعَةٍ منه الجِرابَ، وشدَّتْ فمَ الجِرابِ بالباقي فَسُمِّيَتْ لذلك ذاتَ النِّطاقَيْنِ. انطلقَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم في رحلتِه المباركةِ معَ حبيبِه الوَفِيِّ أبي بكرٍ رضي الله عنه حتى وصلا غارَ ثَوْرٍ لِيُقِيمَا فيهِ، ودخَلَ الصِّدِّيقُ أبو بكرٍ قبلَ الرسولِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ لِيَنظُرَ أَفِيهِ سَبُعٌ أو حيَّةٌ لِيَقِيَ النبيَّ الأعظمَ صلى الله عليه وسلم بنَفْسِهِ، وكانَ في الغارِ عِدَّةُ ثُقُوبٍ فجَعَلَ الصِّديقُ يَسُدُّ الثُّقوبَ بثوبِه وبقِيَ ثُقْبٌ واحدٌ فسَدَّهُ رضي الله عنه برجلِه لِيَحمِيَ حبيبَه وقُرَّةَ عينِه محمدًا خيرَ مَنْ وَطِئَ الثَّرَى، فلَدَغَتْهُ الأَفْعَى في رِجْلِه، فمَا حرَّكَها وما أزَاحَها، وبكى رضيَ الله عنه فنَزلَتْ دمعتُه المباركةُ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم خيرِ الأنامِ وأَيْقَظَتْه، فقامَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ ومسحَ بريقِه الطاهرِ المباركِ على مكانِ الّلدْغِ فَشُفِيَ أبو بكرٍ بإذنِ اللهِ.

وانطلقَ المشركونَ كالوُحوشِ الكَاسِرَةِ يَنْتَشِرونَ في طريقِ المدينةِ المنوَّرَةِ بعدَ أن عَلِمُوا بخروجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم يُفتِّشونَ عنهُ وعَنْ صاحبِه، حتَّى وصلُوا الغَارَ. وحمَى اللهُ تعالى حبيبَه بخيطِ العنكبوتِ أوهَنِ البُيوتِ، وجاءَتْ حمامةٌ باضَتْ على فمِ الغارِ فأعمَى اللهُ تعالى أبصارَ المشركينَ عن رُؤيةِ المصطفى، وسَمِعَ الرسولُ العظيمُ صلى الله عليه وسلم وصاحبُه أقدامَ المشركينَ تَخْفِقُ من حولِهم، فأخَذَ الرَّوْعُ والخوفُ أبا بكرٍ وصار يَهْمِسُ يُحدِّثُ قُرَّةَ عينِه محمدًا ويقولُ لهُ: "يا رسولَ اللهِ لو أنَّ أحدَهم ينظُرُ إلى قدَمَيْهِ لأَبْصَرنا"، فأجابَه النبيُّ وكُلُّه ثِقةٌ وتَوَكُّلٌ على خالِقِه ومولاهُ: "يا أبا بكرٍ ما ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثالِثُهُما" أي ناصِرُهما. فإنَّ التَّحَيُّزَ في الجهةِ والمكانِ مِنْ صِفاتِ المخلوقِ أمَّا ربُّنا فهُو موجودٌ بلا مكانٍ ولا جهةٍ.

ولما انصَرَفَ المشركونَ عنِ الغارِ خرَجَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر برعايةِ اللهِ وعنايَتِه وتابَعَا طريقَهُما إلى المدينةِ المنورة. وهناك في المدينةِ، هناك في طَيْبَةَ ينتظِرُ المؤمنونَ مِنْ مُهاجرينَ وأنصارٍ بلَهَفٍ وشَوْقٍ وُصولَ الحبيبِ يومًا بعدَ يومٍ إلى أَنْ تَبَدَّا لهم بِمُحَيَّاهُ الجَميلِ ولِسانُ حالِهم يقولُ: طلعَ البدرُ علينَا من ثَنِيّاتِ الوَداع وتلَقَّى المسلمونَ من أنصارٍ ومهاجِرينَ رسولَ اللهِ أحسنَ استِقْبالٍ، فخرجُوا في الطُّرُقِ وعلى السُّطُوحِ مُبْتَهِجِينَ، وانتشَرَ الخَدَمُ والصبيانُ في الطريقِ يَهْتِفُونَ "اللهُ أكبرُ، جاءَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، جاءَ محمدٌ". ثم نزَلَ النبيُّ في دارِ أبِي أيوبٍ الأنصارِي. واسمعوا معاشرَ الحُضورِ إلى قولِ أبي أيوبٍ الأنصاريِّ الصحابِيِّ الجليل: "وكُنّا نصنَع لهُ العَشَاءَ، أي لِلنبيِّ صلى الله عليه وسلم، ثم نَبعَثُ بهِ إليهِ، فإذَا رَدَّ علَينا فَضْلَه تَيَمَّمْتُ، أي قَصَدْتُ، أنا وأمُّ أَيوبٍ مَوْضِعَ يَدِهِ، فَأَكَلْنَا مِنهُ نَبْتَغِي بذلك البَركةَ". تأمَّلْ أخِي بتَدَبُّرٍ في تبرُّكِ أبي أيوبٍ وزوجِه رضي الله عنهُما بآثارِ أصابِعِ رسولِ اللهِ في قَصْعَةِ الطعامِ التي كانَ يأكُلُ منها الرسولُ الأَعْظَمُ ولم يُنْكِرْ النبيُّ عليهِما ذلك وكانَ في هذا أَبْيَنُ البَيانِ على جوازِ التبركِ بآثارِه صلى الله عليه وسلم، وأنهُ أمرٌ مشروعٌ في الشريعةِ الإسلاميةِ كما قالَ الأئِمَّةُ الأعلامِ.

وقد ثبتَ أنَّ الصحابةَ كانوا يتبركونَ بِآثارِ النبيِّ في حياتِه وبعدَ مَماتِه وجوازُ هذا يُعرفُ من فِعلِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وإِقرارِه وذلكَ أنهُ عليهِ السلامُ قَسَمَ شَعَرَهُ وأَظْفَارَه بينَ الناسِ لِيَتَبَركوا بِهما ولِيَسْتَشْفِعوا إلى اللهِ بما هو مِنْهُ ويتقَرَّبُوا إلى الهِإ بذلكَ، قَسَمَهُ بينَهم لِيَكونَ بركةً باقيةً بينَهم وتَذْكِرَةً لهم، ثم تَبِعَ الصَّحابَةَ في طريقَتِهِمُ المباركةِ في التبركِ بآثارِه من أسعَدَهُ اللهُ تعالى، وتوارَدَ ذلكَ الخلَفُ عَنِ السَّلَفِ. وقد روَى البخاريُّ أن أمَّ سلمةَ زوجَ النبيِّ كانَتْ تحتَفِظُ بشعَراتٍ منَ النبيِ صلى الله عليه وسلم في مَا يشبِهُ القارورةَ، فكانَ إذا أصابَ أحدًا منَ الصحابةِ عينٌ أو أذًى أرسَلَ إليهَا إناءً فيهِ ماءٌ، فجَعَلَت رضيَ الله عنها الشعراتِ في الماءِ، ثم أخَذُوا الماءَ يشرَبونَهُ للاستِشْفاءِ والتَبَرُّكِ بهِ. ومن ذلكَ ما رواهُ مسلمٌ في صحيحِه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ يدخُلُ بيتَ الصحابيةِ الجليلةِ أمِّ سُلَيْمٍ فينامُ على فِرَاشِها، فجاءَتْ أمُّ سُلَيْمٍ يومًا وقد عَرِقَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم واستَنْقَعَ عَرَقُهُ على قِطعةِ أديمٍ على الفِراشِ فجَعَلَتْ تُنَشِّفُ العَرَقَ فتَعْصِرُه في قواريرِها، فأفَاقَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقالَ: "ما تصنَعينَ يا أمَّ سُلَيم"؟ فقالَت: "يا رسولَ اللهِ نرجُو بركتَه لصبيانِنا"، فأقرَّها عليهِ السلامُ على ذلكَ وقالَ لهَا: "أَصَبْتِ".

فأينَ هم نُفَاةُ التوسُّلِ المشبِّهَةُ الذين يُنكِرونَ التبركَ بأثارِه عليهِ السلامُ ويجعلونَه شِرْكًا، أينَ هؤلاءِ من حديثِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وعمَلِ الصحابةِ والسلفِ الصالحِ وإجماعِ المسلمينَ، فنُفاةُ التوسلِ في وادٍ والصوابُ الذي عليهِ أهلُ السنةِ في وادٍ.

اللهم اجعَلْ قلوبَنا عامرةً بحبِّ وتعظيمِ وإِجْلالِ حبيبِكَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وثَبِّتْنا على هديِهِ وطريقَتِهِ وأَعِدْ علينَا الذِّكرى بالخيرِ والبركاتِ والطُفْ بأُمَّةِ محمدٍ في مشارقِ الأرضِ ومغاربِهَا والسلامُ عليكم ورحمةُ الله.

Share this post

Submit to DiggSubmit to FacebookSubmit to Google PlusSubmit to StumbleuponSubmit to TwitterSubmit to LinkedIn

Search our site

Listen to the Qur'an

Click

كيف يدخل غير المسلم في الإسلام

يَدخل غيرُ المسلم في الإسلام بالإيمان بمعنى الشهادتين وقولِهِما سامعًا نفسَه بأيّ لغةٍ يُحسنها.

وإن أراد قولَهما بالعربية فهما:

أَشْهَدُ أَنْ لا إلَـهَ إلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله

وَهَذا هو التسجيل الصوتي للشهادتين اضغط

A.I.C.P. The Voice of Moderation