شـُـــمولُ مَشيئَةِ اللهِ تعالى
الحمدُ للهِ رَبِّ العالمينَ لَهُ النِّعمَةُ ولَهُ الفَضلُ ولَهُ الثَّناءُ الحسَنُ وأَشهَدُ أَن لا إِلهَ إِلاّ اللهُ وَحدَهُ لا شَريكَ لَهُ وأَشهَدُ أَنَّ محمّدًا عَبدُهُ ورَسولُهُ،
أَمّا بَعدُ فَقَد روى الحافِظُ أَبو نُعَيمٍ مِن طَريقِ ابنِ أَخِ الزُّهريِّ عَن الزُّهريِّ أَنَّ عُمَرَ بنَ الخطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ كانَ يحبُّ قَصيدَة لَبيدِ بنِ رَبيعَةَ الّتي مِنها هذِهِ الأَبياتِ. وهِيَ مِن بحرِ الرَّمَل:
إِنَّ تَقوى رَ بِّـنا خَيْرُ نَـفَلْ - وَبِإِذنِ الله رَيثي وعَجَلْ
أَحمَدُ اللهَ فَلا نِدَّ لَهُ - بيَديْهِ الخَيرُ ما شاءَ فَعَلْ
مَن هَداهُ سُبُلَ الخَيرِ اهتَدى - ناعِمَ البالِ ومَن شاء أَضَلَّ
إِنما كانَ عُمَرُ يُعجَبُ بهذِهِ الأَبياتِ لِما فيها مِنَ الفَوائِدِ الجَسيمَةِ، فَقَولُهُ: "إِنَّ تَقوى رَبِّنا خَيرُ نَفَل"، أَي أَنَّ تَقوى اللهِ خَيرُ ما يُؤتاهُ الإِنسانُ وَخَيرُ ما يُعطاهُ الإِنسانُ، والتَّقوى كَلِمَةٌ خَفَيفَةٌ على اللِّسانِ لكِنَّها ثَقيلَةٌ في العَمَلِ لأَنها أَداءُ ما افتَرَضَ اللهُ على العِبادِ واجتِنابُ ما حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِم وهذا أَمرٌ ثَقيلٌ، قالَ اللهُ تَبارَكَ وَتَعالى: ﴿وقَليلٌ مِن عِبادِيَ الشَّكورُ﴾ وقَد خَصَّهُم اللهُ تَعالى في الآخِرَةِ بِنَعيمٍ في الجَنَّةِ لا يُشارِكُهُم فيهِ غَيرُهُم.
قالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: "قالَ اللهُ تَعالى: أَعدَدتُ لِعِبادِيَ الصَّالحينَ ما لا عَينٌ رَأَت ولا أُذُنٌ سمِعَت ولا خَطَرَ على قَلبِ بَشَرٍ" الحَديثُ رَواهُ البُخارِيُّ. أَي لَم يُطلِعِ اللهُ عَلَيهِ مَلائِكَتَهُ المُقَرَّبينَ ولا أَنبِياءَهُ المُرسَلينَ حتى إِنَّ هذا النَّعيمَ لَم يُطلِعْ عَلَيهِ رِضوانَ خازِنَ الجَنَّةِ.
وَقولُهُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ:
"وَبِإِذنِ اللهِ رَيثي وَعَجَل" أَي أَنّهُ لا يُبطِئُ مُبطِئٌ ولا يُسرِعُ نَشيطٌ في العَمَلِ إِلاّ بمشيئَةِ اللهِ وَإِذنِهِ، أَي أَنَّ اللهَ تَبارَكَ وَتَعالى هُو الّذي يَخلُقُ في العَبدِ القُوَّةَ وَالنَّشاطَ للخَيرِ وهُو الّذي يخلُقُ فِيهِ الكَسَلَ وَالتَّوانيَ عَنِ الخَيرِ، أَي أَنَّ الخَيرَ والشَّرَّ اللَّذَينِ يحصُلانِ مِنَ الخَلقِ كُلٌّ بخَلقِ اللهِ تَعالى ومَشيئَتِهِ. قالَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ:"أَحمَدُ اللهَ فَلا نِدَّ لَهُ" أَي لا مَثيلَ لَهُ قالَ:"بِيَدَيهِ الخَيرُ"، أَي والشَّرُ أَي أَنَّ اللهَ تَعالى مالِكُ الخَيرِ ومالِكُ الشَّرِّ وخالِقُ الخَيرِ والشَّرِّ، لا خالِقَ لِلخَيرِ والشَّرِّ مِن أَعمالِ العِبادِ إِلاّ اللهُ لَيسَ العِبادُ يخلُقونَهُ ولا النُّورُ والظُّلمَةُ يخلُقانِ ذَلِكَ كَما قالَت المانَوِيَّةُ وهُم قَومٌ يَقولونَ "النُّورُ والظُّلمَةُ قَديمانِ أَزَلِيّانِ ثمَّ تمازَجا فَحَدَثَ عَنِ النُّورِ الخَيرُ وعَنِ الظُّلمَةِ الشَّرُّ وقَد كَذَّبهم المُتَنَبي الشّاعِرُ في قَولِهِ:
وَكَم لِظَلامِ اللّيلِ عِندِيَ مِن يَد - تُخَبِّرُ أَنَّ المانَوِيَّةَ تَكذِب
وَإِنما اقتَصَرَ لبيدٌ رَضِيَ اللهُ عَنهُ على ذِكرِ الخَيرِ دونَ الشَّرِّ اكتِفاءً بِذِكرِ الخَيرِ عَن ذِكرِ الشَّرِّ لأَنّهُ مَعلومٌ عِندَ أَهلِ الحَقِّ أَنَّ اللهَ خالِقُ الخَيرِ والشَّرِّ وعلى هذا اتَّفَقَ أَهلُ الحَقِّ فَإِيمانُ المُؤمِنينَ وطاعَاتُهُم وكُفرُ الكافِرينَ كُلٌّ بخَلقِ اللهِ تَعالى ومَشيئَتِهِ إِلاّ أَنَّ الخَيرَ والإِيمانَ والطّاعَةَ بخَلقِ اللهِ ومَشيئَتِهِ ورِضاهُ، والكُفرَ والمعاصي بخَلقِ اللهِ يحصُلُ مِنَ العِبادِ لا بِرِضاهُ بَل نهاهُم عَن ذَلِكَ. اللهُ سُبحانَهُ وَتَعالى فَعَّالٌ لِما يُريدُ ولا يُسأَلُ عَمّا يَفعَلُ ولا يجوزُ قِياسُ الخالِقِ على الخَلقِ كالّذي يَقولُ: كَيفَ يَكونُ خالِقَ الشَّرِّ فينا ثمَّ يحاسِبُنا في الآخِرَةِ على الشَّرِّ؟ فَقَد قاسَ الخالِقَ على الخَلقِ وذَلِكَ ضَلالٌ بَعيدٌ، إِذ لا يَتِّمُ أَمرُ الدِّينِ إِلاّ بِالتَّسليمِ للهِ فَمَن سَلَّمَ للهِ سَلِمَ وَمَن تَرَكَ التَّسليمَ لَهُ فاعتَرَضَ لَم يَسْلَم، فَإِن قيلَ أَليسَ اللهُ تَبارَكَ وَتَعالى قالَ ﴿بِيدِكَ الخَيرُ﴾ ولَم يَقُلِ الشَّرِّ فَكَيفَ يجوزُ أَن يُقالَ: إِنّهُ خالِقُ الخَيرِ والشَّرِّ؟ كانَ الجوابُ في مَواضِعَ أُخرى مِنَ القُرءانِ ما يُفيدُ أَنَّ اللهَ تَعالى خالِقُ كُلِّ شَىءٍ يَشمَلُ الخَيرَ والشَّرَّ قالَ اللهُ تَبارَكَ وَتَعالى لِنَبِيِّهِ محمّدٍ:﴿قُلِ اللهُمَّ مالِكُ المُلكِ تُؤتي المُلكَ مَن تَشاءُ وَتَنْزِعُ المُلكَ ممَّن تَشاءُ﴾
فَعَلِمنا مِن قَولِهِ تَعالى:﴿تُؤتي المُلكَ مَن تَشاءُ﴾ أَنّهُ هُو خالِقُ الخَيرِ والشَّرِّ لأَنّهُ هُو الّذي ءاتى أَي أَعطى المُلكَ لِلمُلوكِ الكَفَرَةِ كَفِرعونَ والمُلوكِ المُؤمِنينَ كَذِي القَرنَينِ فَلَيسَ في تَركِ ذِكرِ الشَّرِّ مَعَ الخَيرِ في قَولِهِ تَعالى:﴿بِيدِكَ الخَيرُ﴾ دَليلٌ على أَنَّ اللهَ تَعالى لَيسَ خالِقًا للشَّرِّ، وأَمَّا قَولُهُ تَعالى: ﴿ما أَصابَكَ مِن حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وما أَصابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَفسِكَ﴾ فَالحَسَنَةُ مَعناها النِّعمَةُ والسَّيِّئَةُ هُنا مَعناها المُصيبَةُ والبَلِيَّةُ فَمَعنى الآيَةِ ﴿ما أَصابَكَ مِن حَسَنَةٍ فَمِن اللهِ﴾ أَي ما أَصابَكَ مِن نِعمَةٍ فَمِنَ اللهِ أَي مِن فَضلِ اللهِ عَلَيكَ وما أَصابَكَ مِن سَيِّئَةٍ أَي مُصيبَةٍ وَبَلِيَّةٍ فَمِن نَفسِكَ أَي مِن جَزاءِ عَمَلِكَ، أَعمالُ الشَّرِّ الّتي عَمِلتَها نُجازيكَ بها بهذِهِ المصائِبِ والبَلايا هذا مَعنى السَّيِّئَةِ. ﴿وَما أَصابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَفسِكَ﴾ مَعناهُ مِن جَزاءِ عَمَلِكَ تَأتيكَ المَصائِبُ والبَلايا، لَيسَ المَعنى أَنّكَ أَنتَ أَيُّها الإِنسانُ تخلُقُ الشَّرَّ، العَبدُ لا يخلُقُ شَيئًا لكِن يَكتَسِبُ، يَكتَسِبُ الخَيرَ ويَكتَسِبُ الشَّرَّ واللهُ خالِقُهُما في العَبدِ فَإِنَّ عَمِلنا خَيرًا فَاللهُ تَعالى هُو خَلَقَ هذا العَمَلَ فينا. وإِن عَمِلنا شرًا فَهُو خَلَقَهُ فينا.
مَن هَداهُ سُبُلَ الخَيرِ اهتَدى ناعِمَ البالِ وَمَن شاءَ أَضَلَّ مَعنى هَذا البَيتِ أَنَّ اللهَ تَبارَكَ وتَعالى مَن هَداهُ سُبُلَ الخَيرِ أَي مَن شاءَ في الأَزَلِ أَن يَكونَ مُهتَدِيًا فَلا بُدَّ أَن يَهتَدِيَ، أَي مَن شاءَ اللهُ لَهُ في الأَزَلِ أَن يَكونَ مُهتَديًا، أَي على دينِ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى وعلى تَقواهُ اهتَدى أَي صارَ مُهتَدِيًا تَقِيًّا ناعِمَ البالِ أَي مُطمَئِنَ البالِ للإِيمانِ بِاللهِ تَعالى وبما جاءَ عَن رَسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، "وَمَن شاءَ أَضَلَّ" أَي أَنَّ اللهَ تَبارَكَ وتَعالى مَن شَاءَ في الأَزَلِ أَن يَكونَ ضالاًّ أَضَلَّهُ اللهُ تَبارَكَ وَتَعالى أَي خَلَقَ فيهِ الضَّلالَ، هذِهِ مِن أُصولِ عَقائِدِ أَهلِ التَّنْزيهِ، أَهلِ التَّوحيدِ، أَهلِ السُنَّةِ والجماعَةِ الّذينَ هُم على ما كانَ عَلَيهِ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ وَأَصحابُهُ وَمَن تَبِعَهُم بِإِحسانٍ، هُم على هذا الاعتِقادِ أَنَّ مَن شاءَ اللهُ تَعالى لَهُ في الأَزَلِ أَن يَكونَ مُهتَديًا لا بُدَّ أَن يَهتَدِيَ بِاختِيارِهِ.
اللهُ تَبارَكَ وَتَعالى يُلهِمُهُ الإِيمانَ والتُّقى، مَن شاءَ اللهُ تَبارَكَ وَتَعالى في الأَزَلِ أَن يَكونَ على سَبيلِ الهُدى اهتَدى بِاختِيارِهِ لا مجبورًا وأمّا مَن شاءَ اللهُ تَعالى في الأَزَلِ أَن يَكونَ على خِلافِ ذَلِكَ أَي أَن يَكونَ ضالاًّ كافِرًا أَضَلَّهُ اللهُ تَبارَكَ وَتَعالى أَي جَعَلَهُ كافِرًا فَيَختارُ هذا العَبدُ الكُفرَ وَكُلٌّ مِنَ الفَريقَينِ كُلٌّ مِنَ الطّائِفَتَينِ الطّائِفَةِ الّذينَ شاءَ اللهُ لهم في الأَزَلِ الإِيمانَ أَن يَكونوا مُهتَدينَ يختارونَ الهُدى أَي الإِسلامَ والتَّقوى ومَن شاءَ اللهُ لهم في الأَزَلِ أَن يَكونوا كافِرينَ باختِيارِهِم أَضَلَّهُم اللهُ تَبارَكَ وَتَعالى أَي خَلَقَ فيهم الضَّلالَ.
فِالإِيمانُ بخَلقِ اللهِ تَعالى في العَبدِ والكُفرُ بخَلقِ اللهِ تَعالى في العَبدِ وكِلا الطّائِفَتَينِ يَكونُ لَهُ اختيارٌ هذا يختارُ الإِيمانَ لأَنَّ اللهَ شاءَ في الأَزَلِ أَن يَكونَ مُؤمِنًا مُهتَدِيًا باختِيارِهِ وهذا يختارُ الكُفرَ لأَنَّ اللهَ تَعالى شاءَ في الأَزَلِ أَن يَكونَ كافِرًا ضَالاًّ فَلِما في هذِهِ الأَبياتِ مِنَ التَّوحيدِ الخالِصِ كانَ يُعجَبُ بهنَّ عُمَرُ بنُ الخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ فاحفَظوهُنَّ فَإِنهُنَّ مِن جواهِرِ العِلمِ في أُصولِ العَقيدِةِ.