مَحَطّاتٌ مَعَ العاشرِ مِنْ المُحَرّمِ
إنّ الحمدَ للهِ نحمَدُهُ ونستعينُهُ ونستهديهِ ونشكرُهُ، ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالِنا، مَنْ يهدِ اللهُ فلا مُضِلَّ لهُ، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هاديَ لَهُ، نحمَدُهُ سبحانه وتعالى فإنّهُ لم يزلْ حليمًا غفورًا، ونشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ شهادةً نكونُ بِها بإذنِ اللهِ يومَ الحسابِ مِمّنْ ينقلبُ إلى أهلِهِ مسرورًا، ونشهدُ أنّ سيدَنا وحبيبَنا وعظيمَنا وقائدَنا وقُرّةَ أعيُنِنا محمّدًا عبدُهُ ورسولُهُ وحبيبُهُ ومصطفاهُ الذي انْجَلَتْ محاسِنُهُ شُموسًا وبُدورًا، صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ وعَلَى الّذينَ أظهرَ اللهُ بِهِم دينَهُ مِنَ الأنبياءِ وجزاهُمْ بِما صَبروا جزاءً مَوْفُورًا.
أمّا بعدُ عبادَ اللهِ، فإنِّي أوصيكُمْ ونَفْسِي بتقوَى اللهِ العليِّ القديرِ القائلِ في مُحكمِ كتابِهِ المعْجزةِ الكريمِ: ﴿فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ سورة البقرة/37.
إخوةَ الإِيمانِ، إنَّ يومَ العاشرِ مِنَ المُحَرّمِ أيْ يومَ عاشوراءَ مليءٌ بالخيراتِ والفضائلِ والحوادِثِ والصبرِ والدروسِ وهوَ مشهورٌ عندَ الأواخِرِ والأوائِلِ، في يومِ عاشوراءَ تابَ اللهُ على سيِّدِنا ءادمَ عليهِ السلامُ، وفي يومِ عاشوراءَ نَجّى اللهُ سيدَنا نوحًا عليهِ السلامُ وأنزَلَهُ مِنَ السَّفِينَةِ مَحْفُوفًا بالنَّصْرِ، وفي يومِ عاشوراءَ أنقذَ اللهُ سيدَنا إِبرَاهيمَ عليهِ السلامُ منَ النمرودِ، وفي يومِ عاشوراءَ رَدَّ اللهُ سيدَنا يوسُفَ على سيدِنا يَعْقُوبَ عليهِما السلامُ، وفي عاشوراءَ أظهرَ اللهُ سيدَنا موسَى على فِرْعَوْنَ الطَّاغِيَةِ الظَّالِمِ وفَلَقَ اللهُ لسيدِنا مُوسَى ولبَنِي إسرائيلَ البحْرَ، وفيهِ أُخرِجَ سيدُنا يونُسُ عليهِ السلامُ منْ بَطْنِ الحُوتِ وكُشِفَ ضُرُّ سيدِنا أيوبَ عليهِ السلامُ، وفي يَوْمِ عَاشُورَاءَ في يومِ الجمُعَةِ في سَنَةِ إحدى وستينَ مِنَ الهجرةِ كانتِ الفاجعَةُ التي ألَمَّتْ بالمسلمينَ بِمَقْتَلِ سِبْطِ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ، بِمَقْتَلِ أبي عبدِ اللهِ الحسينِ بنِ عليٍّ حفيدِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلّمَ ابنِ بِنْتِهِ فاطمةَ رضيَ اللهُ عنهما على أيدِي فئةٍ ظالِمَةٍ فماتَ الحسينُ شهيدًا وهوُ ابنُ ستٍّ وخمسينَ سَنَةً وهوَ الذي قالَ فيهَ جَدُّهُ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ وفي أخيهِ: "الحسَنُ والحسَيْنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّة" رواهُ الترمذيُّ وأحمدُ والطبرانِيُّ .
وقالَ : "حُسَيْنٌ منّي وأنا مِنْ حُسَيْنٍ " أيْ محبّتي لهُ كاملةٌ ومحبّتُهُ لي كاملةٌ.
واليَوْمَ إِخْوَةَ الإيمانِ سَنَقِفُ بِإِذْنِ اللهِ رَبِّ العالمينَ عِنْدَ مَحَطَّةٍ مِنْ مَحَطَّاتِ العَاشرِ منَ المُحَرّمِ وَهِيَ تَوْبَةُ ءادمَ عليهِ السَّلامُ لِنَتَعَلّمَ أَحْكَامًا عَدِيدَةً مِنْهَا: أَنَّ ءَادَمَ عَصَى رَبَّهُ بِأَكْلِهِ مِنَ الشَّجَرَةِ وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ عليهِ النبُوّةُ والرسالةُ لأنهُ إنما نُبِّىءَ بعدَ أنْ خَرَجَ مِنَ الجنّةِ، وهذهِ المعصيةُ ءادمُ تابَ منْها، يقولُ اللهُ تعالى: ﴿وَعَصَى ءادَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى﴾ سورة طه/121-122.
ولا تُعَدُّ تلكَ المعصيةُ معصيةً كبيرةً لأَنّ اللهَ حَفِظَ الأَنْبِياءَ مِنَ الوُقُوعِ في الكُفْرِ وفي المعَاصِي الكَبِيرَةِ وفِي المعَاصِي الصَّغيرةِ التي فيهَا خِسَّةٌ ودناءةٌ، فهَذِهِ المعصِيَةُ التِي وَقَعَ فيهَا ءادمُ عليهِ السلامُ لَيْسَتْ كفرًا ولا كبيرةً ولا صغيرةً فيها خِسَّةٌ وَدَنَاءَةٌ.
يقولُ اللهُ تعالى: ﴿فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ سورة البقرة/37.
﴿فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ﴾ الآيةَ. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ قالَ الكلمَاتُ: "اللهُمَّ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ ، رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي إِنَّكَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ، لا إِلهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ، رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَتُبْ عَلَيَّ إنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحيمُ".
﴿فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾.
فيا أخِي المسلمُ إنْ أسْرَفْتَ على نفْسِكَ بالذُّنُوبِ والْمَعَاصِي سَارِعْ إِلَى التَّوبَةِ وَخُذِ العِبَرَ مِمَّا حَصَلَ في عَاشُورَاءَ وَتَذَكَّرْ تَوْبَةَ ءادمَ وتذَكَّرِ الكلماتِ التي قالَها ءادمُ عَلَيْهِ السَّلامُ وتَفَكّرْ بِمَعَانِي الكَلِمَاتِ التِي قَالَها ءَادَمُ عَلَيْهِ السَّلامُ، قالَ: "لا إلهَ إلا أنْتَ سبحانَكَ وبِحمْدِكَ". نَفَى الأُلُوهِيَّةَ عَمَّا سِوَى اللهِ وَأَثْبَتَهَا للهِ وَحْدَهُ، قَالَ: "لا إلهَ إلا أنتَ".
ثُمَّ نَزَّهَ رَبَّهُ عَنِ الشَّبِيهِ وَالْمَثِيلِ وَالْمَكَانِ وَصِفَاتِ الْخَلْقِ قَالَ: "سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ " حَمِدَ رَبَّهُ عَلَى مَا أنْعَمَ عليهِ مِنَ النعَمِ.
ثُمَّ أَقَرَّ بِمَا حَصَلَ مِنْهُ " رَبِّ إِنِّـي ظَلَمْتُ نَفْسِي".
ثُمَّ تَذَلَّلَ للهِ نِهَايةَ التذَلّلِ طَالِبَا الْمَغْفِرَةَ مِنَ اللهِ سبحانَهُ وتعالى "رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغفِرْ لي إنّكَ خيرُ الراحمينَ، رَبِّ إنّي ظلمتُ نفسي فَتُبْ عليّ إنكَ أنتَ التوّابُ الرحيمُ".
وروى البيهقيُّ بإسنادِهِ عنْ عُمَرَ بنِ الخطّابِ رضيَ اللهُ عنهُ أنهُ قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ: "لَمَّا اقْتَرَفَ ءَادَمُ الخَطِيئَةَ قَالَ "يَا رَبِّ أسألُكَ بِحَقِّ محمّدٍ إلا مَا غَفَرْتَ لِي فقالَ اللهُ (وهو أَعْلَمُ لا شَكَّ) فَقَالَ اللهُ فكَيْفَ عَرَفْتَ مُحَمَّدًا وَلَمْ أَخْلُقْهُ بعدُ ؟ فقال: يا ربُّ لأنّكَ لَمّا خَلَقْتَني بِيَدِكَ (أَيْ بِعِنَايَتِكَ) ونَفَخْتَ فِيَّ مِنْ رُوحِكَ (أَيْ الرُّوحِ الْمُشَرَّفَةِ عِنْدَكَ) قالَ: رَفَعْتُ رَأْسِي فَرَأَيْتُ علَى قَوَائِمِ العَرْشِ مَكْتُوبًا لا إلهَ إلا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ فَعَلِمْتُ أَنَّكَ لَمْ تُضِفْ إِلَى اسْمِكَ إِلاَّ أَحَبَّ الْخَلْقِ إِلَيْكَ".
وَلْيُعْلَمْ أنَّهُ لَيْسَ مَعْنَى قَوْلِهِ بيدِكَ أنَّ اللهَ موْصوفٌ بالجارِحَةِ كَالإِنْسَانِ إِنَّمَا اللهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الجسْمِ وعنْ صفاتِ الجسمِ.
ولْيُعْلَمْ أيضًا أنَّ ءادمَ عليهِ السلامُ لهُ فَضْلٌ كبيرٌ على البَشَرِ لِما لَهُ عليهِمْ مِنْ حَقِّ الأبُوَّةِ وتَعْلِيمِ أُصُولِ الْمَعِيشَةِ، فَلا يَجُوزُ تَنْقِيصُهُ، فَمَنْ نَقَّصَهُ أوْ أنْكَرَ نبوّتَهُ أو رسالتَهُ فهوَ كافرٌ والعياذُ باللهِ، فلوْ كانَ الأمرُ كما ظَنّ بعضُ الناسِ أنّ ءادمَ لَمْ يكنْ رَسُولاً لَسَاوَى البَشَرُ البَهَائِمَ وَلَكَانَتْ ذُرِّيتُهُ في زمانِهِ تَعِيشُ كالبَهَائِمِ بِلا شَرِيعَةٍ والعِيَاذُ باللهِ، كَيفَ عَرَفُوا بِجَوازِ أنْ يتزَوّجَ الأخُ منْ أختِهِ مِنَ البَطْنِ الثَّانِي ؟ أليسَ بالشَّرْعِ الذي نَزَلَ على ءادمَ ؟ بَلَى، فَحَوّاءُ عليها السلامُ كانتْ تَلِدُ في كُلِّ بَطْنٍ ذَكَرًا وأُنْثَى فكانَ يَجُوزُ للأَخِ أَنْ يَتَزَوَّجَ مِنْ أُخْتِهِ مِنَ البَطْنِ الثانِي لأَجْلِ كَثْرَةِ التَّنَاسُلِ، أمّا مِنْ نَفْسِ البطنِ فلا يجوزُ فكيفَ عُرِفَ هذا ؟ أليسَ بالشريعةِ التي أُنْزِلَتْ على ءادَمَ ؟ بلَى.
واللهُ تعالى جعَلَ ءادمَ جميلَ الشكلِ والصورةِ وَحَسَنَ الصَّوتِ لأنّ جميعَ أنبياءِ اللهِ كانوا على صُورةٍ جميلةٍ وشكلٍ حَسَنٍ، قالَ رسولُ اللهِ صلَى اللهُ عليهِ وسلّمَ: "ما بعثَ اللهُ نبيًا إلا حَسَنَ الوجْهِ حَسَنَ الصوتِ وإنّ نبِيَّكُمْ أحسَنُهُمْ وجهًا وأحسنُهُمْ صوتًا".
ونذكِّرُكُم إخوة الإيمان بسُنِّيَّةِ صِيَامِ يومِ عاشوراءَ لِمَا ورَدَ عنْ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ في ذلكَ مِنْ أنّهُ صامَهُ وأمرَ بصيامِهِ وقالَ: "لَئِنْ عِشْتُ إلَى قَابِلٍ لأَصُومَنَّ التَّاسِعَ" أَيْ مَعَ العَاشِرِ.
اللهمَّ أَمِدَّنا بأَمْدَادِ الأَنْبِيَاءِ وَانْفَعْنا بِبَرَكاتِهِمْ واحشُرْنا تحتَ لواءِ سيّدِنا مُحَمَّدٍ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ.
هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم
الخُطبةُ الثانيةُ:
الحمدُ للهِ نحمَدُه ونستعينُه ونستغفرُه ونستهْدِيهِ ونشكُرُه ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أنفسِنا وسيّئاتِ أعْمَالِنا مَنْ يَهْدِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لهُ ومَنْ يُضْلِلْ فلا هادِيَ لهُ والصلاةُ والسلامُ على محمدِ بنِ عبدِ اللهِ وعلَى ءالِه وصحبِه ومَنْ وَالاهُ.
عبادَ اللهِ أُوصِيْ نفسِيَ وإيّاكمْ بتقْوَى اللهِ العَليّ العظيمِ، يقول الله تعالى: ﴿يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدّمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون﴾.
واعلَموا أنَّ اللهَ أمرَكُمْ بأمْرٍ عظيمٍ، أمرَكُمْ بالصلاةِ والسلامِ على نبيِهِ الكريمِ فقالَ: ﴿إنَّ اللهَ وملائكتَهُ يصلُّونَ على النبِيِ يَا أيُّهَا الذينَ ءامَنوا صَلُّوا عليهِ وسَلّموا تَسْليمًا﴾. اللّـهُمَّ صَلّ على سيّدِنا محمَّدٍ وعلى ءالِ سيّدِنا محمَّدٍ كمَا صلّيتَ على سيّدِنا إبراهيمَ وعلى ءالِ سيّدِنا إبراهيم وبارِكْ على سيّدِنا محمَّدٍ وعلى ءالِ سيّدِنا محمَّدٍ كمَا بارَكْتَ على سيّدِنا إبراهيمَ وعلى ءالِ سيّدِنا إبراهيمَ إنّكَ حميدٌ مجيدٌ. اللّـهُمَّ إنَّا دعَوْناكَ فاستجبْ لنا دعاءَنا، فاغفرِ اللّـهُمَّ لنا ذنوبَنا وإسرافَنا في أمرِنا، اللّـهُمَّ اغفِرْ للمؤمنينَ والمؤمناتِ الأحياءِ منهُمْ والأمواتِ، ربَّنا ءاتِنا في الدنيا حسَنةً وفي الآخِرَةِ حسنةً وقِنا عذابَ النارِ، اللّـهُمَّ اجعلْنا هُداةً مُهتدينَ غيرَ ضالّينَ ولا مُضِلينَ ، اللّـهُمَّ استرْ عَوراتِنا وءامِنْ روعاتِنا واكفِنا مَا أَهمَّنا وَقِنّا شَرَّ ما نتخوَّفُ.
عبادَ اللهِ، إنَّ اللهَ يأمرُ بالعَدْلِ والإحسانِ وإيتاءِ ذِي القربى وينهى عَنِ الفحشاءِ والمنكرِ والبَغي، يعظُكُمْ لعلَّكُمْ تذَكَّرون. اذكُروا اللهَ العظيمَ يذكرْكُمْ واشكُروهُ يزِدْكُمْ واستَغْفِرُوهُ يَغْفِرْ لكُمْ واتّقوهُ يجعلْ لكُمْ مِنْ أمرِكُمْ مخرَجًا. وَأَقِمِ الصلاةَ.