الحَثُّ على الإكثارِ منَ الطاعَةِ فى النِّصْفِ مِن شَعْبَانَ
Listen to this Speech in English: Augmenting Good Deeds in Mid Sha^ban
الحمد لله الملِكِ الدَّيَّان* والصلاةُ والسلامُ على محمَّدٍ سيِّدِ ولدِ عَدنان* وعلى ءاله وصحبه وتابعيه على مَرِّ الزمان* أما بعدُ عِبادَ الرحمَن فإنِّىَ أُوَصِّيكُم بتقوَى اللهِ المَنَّان القائلِ فى كتابِه القرءان: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱرۡكَعُواْ وَٱسۡجُدُواْۤ وَٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمۡ وَٱفۡعَلُواْ ٱلۡخَيۡرَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ۩ ٧٧﴾ (الحجّ)
أمر ربُّنا فى هذه الآية المؤمنين بأفضل الأعمال بعد الإيمان وهى الصلاة المشتمِلة على الركوع والسجود. وحثَّهم على التقرُّب إليه جلَّ وعزَّ بسائر العبادات وأمرَهم بفعل الخير ليكون بذلك فلاحُهم فى الآخرة.
وقد جعل اللهُ جلَّ وعزَّ لعباده المؤمنين أبوابًا كثيرة للخير رحمةً لهم، وأوقاتًا مباركة ليتزوَّدوا فيها لآخرتهم. وإننا على مقرُبة من ليلة مباركة كريمة هى ليلةُ النصف من شعبان وهى الليلة التى تسبق يوم النصف من شعبان وهو الخامس عشر منه (الثلاثاء ١ أيَّار ٢٠١٨ر).
وقد روَى ابنُ ماجَهْ والبيهقىُّ وغيرُهما أنه ﷺ قال: "إذا كانتْ ليلةُ النِّصْفِ مِن شَعْبانَ فَقُومُوا لَيْلَها وَصُومُوا نَهارَها". أى قُوموا أغلبَ الليل بصلاةٍ أو تلاوةِ قرءانٍ أو دعاءٍ، فإن الدعاءَ فى جوف الليل قُرْبةٌ عظيمةٌ وأرجَى فى الاستجابة. وقد ورد فى الدعاء فى تلك الليلة ما رواه البيهقىُّ فى شُعب الإيمان أن رسول الله ﷺ قال: "فإنَّ اللهَ تعالى يقول أَلَا مِن مستغفِرٍ فأغفِرَ له، ألا مِن مُسْتَرْزِقٍ فأرزُقَهُ، ألا مِن سائل فأعطيَهُ. ألا كذا، ألا كذا، حتى يطلُعَ الفجرُ." والمعنى أن اللهَ يأمرُ المَلَكَ فيُنادِى مُخبِرًا عنِ اللهِ جَلَّ وَعَزَّ كما فُسِّرَ ذلك برواية للبيهقىِّ فى شُعب الإيمان: "إذا كانت ليلةُ النصفِ مِنْ شَعْبانَ نادَى مُنادٍ: هل مِن مستغفِرٍ فأغفرَ له؟ هل مِن سائلٍ فأعطيَهُ؟"
إنَّ ربَّنا جَلَّ وَعَزَّ مُتَّصِفٌ بالكلام الأزلىِّ الأبدىِّ الذى ليس حرفًا ولا صوتًا ولا لغةً. فإن الحروفَ والأصواتَ واللغاتِ مخلوقةٌ لله جَلَّ وَعَزَّ، ولا يتَّصِف اللهُ جَلَّ وَعَزَّ بصفات المخلوقات ﴿لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞۖ﴾ (الشورى ١١). وكذلك سائرُ صفات الله جَلَّ وَعَزَّ من الحياة والعلم والقدرة والمشيئة وغيرِها من صفاتِ ذاتِه أزليةٌ أبديةٌ لا تتغير. فلا تتغيَّر مشيئةُ الله مثلًا لدعاءِ داعٍ ولا لصدقةٍ يتصدقُها الشخص. وإنما أُمِرْنا بالدعاء إظهارًا للعبودية. فمن وافَق دعاؤُه ما قدَّرَ اللهُ حصولَه حصلَ مطلوبُ العبد. وإن لم يوافِقْ دعاءُ الشخص ما قدَّرَ اللهُ له لم يحصُلْ مطلوبُه، لكنَّه استفادَ الثوابَ على عبادتِه. وهذا معنى قولِ الله جَلَّ وَعَزَّ: ﴿أُجِيبُ دَعۡوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِۖ﴾ (البقرة ١٨٦).
والتَّغَيُّرُ إخوةَ الإيمان يكون فى المخلوق وأحوالِه، فيتبدَّلُ من حالٍ إلى حالٍ على وَفْقِ علمِ الله الأزلىِّ ومشيئتِه الأزليةِ بتقديره وقضائه. فإنَّا نرى أحوالَ العبادِ تتقلَّبُ من حالٍ إلى حالٍ. فنرى فقيرًا يَغنَى وغنيًّا يفقَر، ونرى صحيحًا يمرَضُ ومريضًا يتعافَى، ونرى ذليلًا يَعِزُّ ونرى عزيزًا يَذِلُّ.
وإحياءُ ليلةِ النصف من شعبان مما ذكر العلماءُ استحبابَ إحيائها وصومِ نهارِها. بل اهتمَّ لذلك السلفُ كما نقل ابنُ الحاجِّ المالكىُّ (ت ٧٣٧هـ) فى كتاب المَدخَل أنَّ السلفَ كانوا يُعظِّمونها ويُشمِّرون لها قبل إتيانها. فما تأتيهم إلا وهم مُتَأَهِّبونَ لِلِقائها والقيامِ بحُرمتها على ما قد عُلم من احترامهم للشعائر. اهـ
وقد اعتاد أُناسٌ الاجتماعَ فى ليلة النصف من شعبان لقراءة دعاءٍ فيه يسمُّونَه دعاءَ النصف مِن شعبان. وهو ليس ثابِتًا عن رسول الله ﷺ ولا عن أحدٍ مِن الصحابة لا عمرَ ولا ابنِ مسعود ولا غيرِهما. وأوَّلُهُ: "يا مَن يَمُنُّ ولا يُمَنُّ عليه". اهـ وفيه عباراتٌ يوهِمُ ظاهِرُها أنَّ مشيئةَ الله وتقدِيرَهُ الأزليَّينِ يتغَيَّرَان. فمن لم يتعلَّمِ العقيدةَ قد لا يفهم هذه العباراتِ على وجهها، فيظنُّ أنَّ اللهَ يُغَيّرُ مشيئَتَه لمن دعا بذلك الدعاء. واعتقادُ تَغَيُّرِ مشيئَةِ الله خُروجٌ من الإسلامِ والعياذُ بالله تعالى. والعبارةُ المقصودةُ هىَ قولُهُم فى الدعاء المذكور: "إن كنتَ كتبتَنِى فى أُمِّ الكتابِ عندك شَقِيًّا فامحُ عنِّى اسمَ الشَّقاءِ وأثْبِتْنِى عندك سعيدًا." اهـ فهذه العبارةُ قد يفهم منها شخصٌ: يا ربِّ إن كُنتَ شئتَ لىَ الشقاءَ فَغَيِّرْ مشيئتَكَ. وهذا الفَهْمُ باطِلٌ لأنَّ الله جَلَّ وَعَزَّ لا يُغَيِّرُ مشيئتَه بل كلُّ صفاتِه أزليةٌ أبديةٌ لا يطرأ عليها تحوُّلٌ ولا تغيُّرٌ. وأمَّا إن كان يفهم منها شخصٌ: يا ربِّ إن كان حالِىَ الآنَ حالَ الأشقياءِ الغارقين فى المعاصى فغَيِّرْ حالِى إلى حالِ السُّعَدَاءِ الأتقِياءِ، فهذا الفهمُ سليمٌ لا ضَرَرَ فيه. فإننَا كُلَّنا نسأل اللهَ تعالى أن يتوفَّانا على حال السُّعَداء. ولأجل الخطر الكامِن فى إساءةِ فهمِ هذا الدعاءِ، أَحُثُّكُم إخوَةَ الإيمان على الدعاءِ بغيِره ولا سِيَّما بالأدعيةِ الثابتةِ عن رسولِ الله ﷺ. وما أكثرَها! منها ما هو مذكور فى كتاب رياض الصالحين ومنها ما هو مذكور فى غيرِه. هَٰذا وأستغفِرُ اللهَ لِى ولَكُم.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد عبادَ الله اتقوا اللهَ.
ثم إنِّى أوصِى نفسىَ وإيَّاكم أن نغتنِمَ هذا الوقتَ المبارَكَ فنصُومَ يومَ النصفِ مِن شعبانَ ونَقومَ ليلَهُ. فقد وَرَدَ فى الحديثِ الصحيح الذى رواه ابنُ حِبَّانَ: "يَطَّلِعُ اللهُ إلى خَلْقِهِ فِى ليلَةِ النصفِ مِن شَعبانَ فيَغْفِرُ لِجَميعِ خَلْقِهِ إلا لِمُشرِكٍ أو مُشاحِنٍ." ومعناه أنَّ اللهَ تعالى يُخَصِّصُ ليلَةَ النصفِ مِن شعبان بهذه المِيزَةِ أنه جَلَّ وَعَزَّ يَرحَمُ عبادَه المؤمنين فيها برحمة خاصة، فيَغفِرُ لبعضِ المسلمين بَعضَ ذُنُوبِهِمْ ولِبَعضٍ كُلَّ ذنوبِهم. وأمّا الكافِرُ فلا يَغْفِرُ له. وكذا المُشاحِنُ الذى بَيْنَهُ وبَينَ مسلمٍ ءاخَرَ عَداوَةٌ وحِقْدٌ وبَغْضاءُ لأمرِ الدنيا. فليُصْلِحْ كُلٌّ مِنَّا ما بينَهُ وبَينَ إخوته المؤمنين، وَلْيَعْفُ وَلْيَصْفَحْ، وَلْيُخْرِجْ ما فى قَلْبِهِ مِنْ غِلٍّ قَبْلَ تِلكَ الليلَة لعلَّ اللهَ يرحَمُنا ويغفِرُ لنا ذنوبنا. فلا يدرِى أحدُنا أىَّ الأعمالِ التى تُقبَلُ منَّا تكون السببَ فى النجاة من العذاب يوم القيامة. اللهم اغفِرْ للمؤمنين والمؤمنات.
الجمعة فِلَدِلفيا ١١ شَعبان ١٤٣٩هـ - ٢٧ نيسان ٢٠١٨ر