Thursday, 28 March 2024
A+ R A-

الرّضَا بما قَسَمَهُ اللهُ وَعَدَمُ التَّعَلُّقِ بالدُّنيا

الحمدُ لله المنعِمِ على عباده مِن غير وجوب* والصلاةُ والسلامُ على رسول الله حبيبِ القلوب* وعلى ءاله وصحبه وكل تقىّ مَربوب* أما بعد فيا عبادَ الله اتقوا اللهَ. قال اللهُ تعالى:

﴿يَأيُّهَا الَّذِىنَ ءَامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّـِبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لله إن كُنتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ (البقرة ١٧٢)

وفى صحيح البخارىّ أن رسولَ الله ﷺ قال: ”إذا نَظَرَ أحدُكم إلى من فُضّل عليه فى المال والخَلْق فَلْينظُرْ إلى مَن هو أسفَلُ منه.“ وفى صحيح مسلم: ”انْظُرُوا إِلى مَنْ هُوَ أسْفَلُ مِنْكُمْ، وَلاَ تَنْظُرُوا إِلى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ. فَهُوَ أجْدَرُ أنْ لاَ تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ.“[1]

إنَّ هذا الحديثَ الشريفَ يحتوى على أدب من ءاداب الشريعة المحمدية المطهَّرة التى تحثُّ المسلمَ على التزوّد لآخرته وعدمِ الانغماس فى شهوات الدنيا والانجرارِ وراء ملذَّاتها. فالنبىُّ ﷺ يُعلّمنا أنَّ من نظَر إلى من هو أكثرُ منه مالًا أو أحسنُ منه جسمًا، يُسنُّ له أن ينظرَ إلى من هو أقلُّ منه مالًا حتى لا يَزْدَرِىَ (يحتقرَ) نعمةَ الله التى أنعَم اللهُ بها عليه.

إن كثرةَ الدخول على الأغنياء تزيد النفسَ رغبةً وتعلُّقًا بالمال وزخارفِ الدنيا ومباهجِها. ومَن تعلَّق قلبُه بحب الدنيا يجرُّه ذلك إلى محاولة جمع الأموال من غير تمييز من الحلال والحرام. ويصير همُّه تكديسَ الأموال ولو عن طريق السرقة أو الاحتيال أو الغشّ غيرَ مُبالٍ بما يترتب على ذلك من مظالمَ غيرَ متفكر بعواقب الأمور. إنما مرادُه أن يصل إلى ما وصل إليه غيرُه من الأغنياء فيكونَ مشابها لهم فى الملبس والمأكل والمسكن وغيرِ ذلك متنعمًا مثلَهم بنِعم زائلة فانية. وقد يسبّب له سعيُه الحثيثُ وراء الدنيا أمراضًا (إذا نظر إلى من هو فوقه لم يأمن أن يؤثّر ذلك فيه حسدًا) وءالامًا ولكنه يتحمل ذلك طمعا فى قصر يسكنه وسيارةٍ يركبها وثيابٍ يلبَسها وشهوةٍ ينالها.

إنَّ من تعلَّق قلبه بحب الدنيا وعيشةِ الترف والغنى فإنه فى الغالب ينسى الاستعدادَ ليوم المعاد يوم لا ينفع مالٌ ولا بنونَ إلا من أتى اللهَ بقلب سليم، وينسى الاستعدادَ لحفرة التراب التى تكتنفها الظلمة وترتاد إليها الهوامُّ أى حشراتُ الأرض المؤذية.

ورسولُ الله ﷺ يَدلّنا على سبيل الوقاية قبل أن تقع قلوبُنا فى حُب الدنيا وقبل أن تصيرَ قاسيةً كقساوة الحجر وقبل أن تنشغل بالدنيا عن الاستعداد للآخرة والتزودِ لها، وذلك بأن ننظرَ إلى من هو أقلُّ منا فى أمر الدنيا. قال رسولُ الله ﷺ: ”أمسِكْ عليكَ لسانَكَ، ولْيسعْكَ بيتُك، وَابكِ على خطيئتِكَ.“ فإذا كان الشخص يجد كفايتَه فقط فلينظرْ إلى من لا يجدُ كفايتَه. وإذا كان يسكن بيتًا صغيرًا فلينظرْ إلى مَن لا يجد ما يأوِى إليه. وإذا كان يلبَس ثوبًا رثًّا فلينظُرْ إلى من لا يجد ثوبًا يستره أو من البرد يقيه. وإذا كان لا يأكل اللحم إلا قليلا فلينظرْ إلى من لا يجد كسرةَ خبز أو شربةَ ماء تُرويه. ولذا كثرةُ الدخول إلى بيوت الفقراء الذين هم دون المسلم فى أمور الدنيا من حيث المالُ والملبَس والمسكنُ ونحوُ ذلك وكثرةُ مجالستهم تزيد القلبَ رِقّةً وتتجه به إلى أن يقنعَ بنصيبه من الدنيا. (اذكر هنا قصة الوالد وولده)

أيها الإخوة الأحباب، أما فى أمر الدين فالمطلوب منا أن ننظرَ إلى من هو فوقنا أى أقوى منا فى الدين. فلا ينبغى للواحد منا أن يغترَّ بنفسه وينظرَ إليها بعين الإعجاب والتعظيم وينسَى نعمةَ الله عليه الذى أقدَرَه على النطق والمشْىِ والبَطش والإبصار. والمطلوب من كل واحد منا أن لا يكتفىَ بما يفعله من طاعات. بل المطلوب أن يكون فى ازدياد وتحسُّنٍ وتَرَقّ فينظرَ إلى من هو أكثرُ طاعات منه وأكثرُ اجتهادًا ونشاطًا وهمةً كى يجتهدَ مثلَه فيزدادَ علوًّا فى الدين لأن علوَّ الهمة فى الدين أمر مطلوب. وقد رغَّب اللهُ تعالى فى التنافس فيما ترتفع به الدرجاتُ فى الآخرة: ﴿وفى ذلك فَلْيتنافَسِ المُتَنافِسونَ﴾ (المطففين ٢٦). أقول قولىَ هذا وأستغفِرُ اللهَ لى ولكم.

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. وبعدُ عبادَ الله اتقوا الله.

ثم إن الغفلةَ عن الترقّى فى الدين وعن الاستعداد لمصالح الآخرة خسرانٌ وأىُّ خسران. فى سنن أبى داود والبيهقى وغيرِهما أن رسولَ الله ﷺ قال: ”مَن اتَّبعَ الصيدَ غَفَلَ.“ واتّباعُ الصيد معناه انهماكُ الفكر وصرفُ الأوقات الطويلة فيه. وهذا الذى ذمَّه الرسولُ لا أصلُ الصيد. فيؤخذ من هذا الحديث أن اتباعَ الصيد مكروه إذا لم يؤد إلى إضاعة واجب كالصلاة. أما إذا أدى إلى ذلك فهو حرام. وكذلك كل لهوٍ مباحٍ إذا أدَّى إلى إضاعة واجب فهو حرام.

وقد ورد فى كتاب الأدب للبيهقى أن رسولَ الله ﷺ قال: ”كُلُّ لهوٍ باطلٌ إلا ملاعبةَ الرجل أهلَه، وتهذيبَه فرسَه، ورميَه بقوسِه، والسباحةَ.“ فهذه الأمورُ الأربعةُ هى أمورٌ مباحة لا بأس بها وبما كان فى معناها. وليس مرادُ الرسول حصرَ اللهو المباح بهذه الأمور الأربعة فقط. واللهوُ نوعان: نوعٌ محرَّم كالقمار ولو لم يُؤَدّ إلى تفويت واجب، ونوعٌ غيرُ محرَّم يُشترَط فيه عدمُ إضاعة الواجبات.

أيها الإخوة الأحباب، الدنيا دارُ ممَرّ والآخرة دار مَقَرّ. فلنأخذْ من ممرنا لمقرنا. ولنكن فى الدنيا عابرِى سبيل. ولنطبّقْ كلامَ النبىّ ونصيحتَه بأن ننظرَ إلى من هو دوننا فى أمر الدنيا، فنحمدَ الله ونشكرَه ولا تميلَ أنفسُنا إلى الدنيا الزائلة. وأما فى أمر الدين فلننظرْ إلى من هو أحسنُ منا حتى تقوَى هِممُنا وتتعلقَ قلوبُنا بمحبة الآخرة والاستعدادِ لها. اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات.

خطبة الجمعة فلادلفيا ٢ ذو الحجة ١٤٣٥ هـ ٢٦-٩-٢٠١٤ ر



[1] It means: "Look at those who stand at a lower level than you, but don't look at those who stand at a higher level than you, for this would make the favors (conferred upon you by Allah) insignificant (in your eyes).

Share this post

Submit to DiggSubmit to FacebookSubmit to Google PlusSubmit to StumbleuponSubmit to TwitterSubmit to LinkedIn

Search our site

Listen to the Qur'an

Click

كيف يدخل غير المسلم في الإسلام

يَدخل غيرُ المسلم في الإسلام بالإيمان بمعنى الشهادتين وقولِهِما سامعًا نفسَه بأيّ لغةٍ يُحسنها.

وإن أراد قولَهما بالعربية فهما:

أَشْهَدُ أَنْ لا إلَـهَ إلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله

وَهَذا هو التسجيل الصوتي للشهادتين اضغط

A.I.C.P. The Voice of Moderation