فى أحكام النكاح (٢): المَهْر المفروض
الحمد لله العليمِ الفتَّاح* مُحرّمِ السّـِفاحِ وشارعِ النّكاحِ* والصلاةُ والسلامُ على محمدٍ خاتَِمِ الرُّسلِ المِلاح* وعلى ءاله وصحبه الداعين إلى الفَلاح* وبعد عبادَ الله اتقوا الله. فقد قال الله تعالى: ﴿ وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّـِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لّـِتَسْكُنُوا إلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إنَّ فى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لّـِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الروم ٢١]
فى خطبتنا السابقة ذكرنا أنَّ أركان عقد النكاح التى لا يصح العقد إلا بها كلّـِها: خاطبٌ، وصيغةُ عقدٍ، وولِىٌّ وشاهدان مسلمون ذُكورٌ عُدول. ويصحُّ العقد عند الإمام أبى حنيفة رضى الله عنه إذا شهد عليه رجل وامرأتان مسلِمون.
واعلموا أن الله تعالى قال: ﴿ وءاتُوا النساءَ صَدُقاتِهنَّ نِحْلَةً ﴾ (النساء ٤). قال القرطبىّ: هذه الآية تدل على وجوب الصَّداق للمرأة، وهو مجمع عليه. ولأحاديثَ كحديث الشيخين: "التَمِسْ ولو خاتَمًا مِنْ حديدٍ".[1] وأمهَر النبىُّ ﷺ زوجاتِه كلَّهن وطلب مهرًا لكل من بناته عند تزويجهنَّ.
فعُلِمَ أنَّ المهرَ حقٌّ للزوجة على الزوج. وهو لا يسقط عن الزوج إلا إذا هى سامحته. فإذا لم يكن المهر مؤجلا وجب على الزوج أن يدفعَه لها متى ما طالبته وهو قادر. فإن كان عنده تلفزيون يبيعه ليدفع لها المهر المستحق. أما إذا كان مؤجلا فلا بد من تحديد الأجل. فإذا جاء الأجل وكان قادرا على الدفع وطالبته ولم تؤجله يجب أن يعطيَها إياه. فإن لم يفعل فهو ءاثمٌ. فإذا امتنع، لها أن ترفع دعوى عند القاضى وتُقيمَ البيّنةَ على ذلك. فيجبره القاضى على دفع المهر لها. وليس هو حقًّا لأهلها. فلا يجوز لأبيها مثلا أن يأخذ هذا المال بغير إذنها ورضاها.
ويكفى فى المهر تسميةُ أىّ شىء يعنى سواءٌ كان عينًا أو دَينًا أو منفعةً بشرط أن يصحَّ جعلُه ثمنًا.[2] أما لو عَقَدَ على عين لا يصح جعلُها ثمنًا مثلِ نواةِ تمر واحدة أو حبةِ قمح واحدة أو ما شابه ذلك لم يَثبُت هذا مهرًا. إنما يرجِعُ الأمرُ إلى مهر المثل.[3]
ويستحب تسميةُ المهر فى صُلب عقد النكاح لأن النبى ﷺ لم يُخَلّ نكاحًا عقده عنه، ولأنه كما لا يخفى أَدْفَعُ للخصومة بين الزوجين. فإذا لم يُذكرِ المهرُ بالمرة وجب لها مهرُ المِثل. ولكن لا يشترط ذكرُه فى صُلب عقد النكاح.[4]
أقول قولِىَ هذا وأستغفر اللهَ لى ولكم.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى ءاله وصحبه ومن والاه. وبعد عباد الله اتقوا اللهَ.
ثم إنه لا حدَّ لأقل المهر ولا لأكثرِه. لكن يُسنُّ أن لا ينقُصَ المهرُ عن عشَرة دراهم.[5] ويستحبُ عدمُ الزيادة على خمسمائة درهم لأن النبىَّ عليه السلام[6] لم يَزِدْ عليها لا فى مهر أحدٍ من نسائه ولا فى مهرٍ دُفِعَ لإحدى بناته. ولو كان التغالِى فى المهور مَكْرُمةً لما أَعرضَ عنها رسول الله ﷺ. وليس للأب أن يسمّـِىَ مهرًا تافها إلا بإذن البنت أى برضاها.
والتيسير على المتزوجين فى المهور أمر يحبه الله تبارك وتعالى. وأما التشديد من قِبَل الأهل فى قيمة المهر فهو أمر لا يحبه الله. روى ابن حبان عن رسول الله ﷺ أنه قال: "إذا جاءكم من ترضَون دينَه وخُلُقَه فزوِّجوه. إلا تفعلوا تكن فتنةٌ وفسادٌ عريض". النبىُّ يرغّب فى الحديث أنهم إذا جاءكم إنسان دَيّـِنٌ متمسك بالدين كما ينبغى وخُلقُه حسنٌ لا تنظروا إلى كونه فقيرا فتمنعوه من الزواج من بنتكم لذلك بطلب مهر غال مثلا. إنما انظروا إلى دينه وأخلاقه. فإن كان متمسكا بالدين وكانت أخلاقه أخلاقًا حسنة فزوّجوه ولو كان فقيرا. سيدنا زيدُ بنُ حارثة كان عبدا مملوكا للنبىّ ﷺ ثم النبىّ ﷺ حرره. زوَّجه النبىُّ ﷺ من ابنة عمه زينبَ.
ثم حذَّرنا رسول الله ﷺ وقال إن لم تفعلوا ذلك يحصل فى الأرض فساد عريض. فكّـِروا فى أحوال كثير من الناس فى هذه البلاد وغيرها. إذا جاء الخاطب ليخطُبَ وكان ذا خُلق حسن ومتمسكا بالدين فصُعّـِب عليه الأمر ولم يُزَوَّج، ماذا يحصل نتيجة لذلك؟ قد يقع فى الحرام فى الزنى الذى حرَّمه الله. والزنى فساد عظيم. أو قد يلجأ إلى التزوج من امرأة سيئة الخلق ليس عندها تمسك بالدين فيضره هذا، يجلب له المشقة والصعوبة فى حياته.
فينبغى على الأهل أن لا يعسّـِروا على الخاطب بالزيادة فى المهر إذا رضُوا دِينَه وخُلقَه. وإن لم يتساهلوا فى المهر على الأقل فليتساهلوا فى عدم طلب الأمور الزائدة كالبيت الواسع الفخم الكبير أو السيارة الفخمة أو ما شابه ذلك. فينبغى أن نفهم أن العبرة ليس بكثرة المال إنما العبرة بالدين والخُلق لأن الذى يكثّـِر ماله من طريق الحرام لا يُعْقِبُه هذا إلا الحسرةَ والندامة فى الآخرة.
بعض الناس إنما يطلبون المهر الكبير للفخر أو يطلبون أن يؤمّـِنَ البيت الفخم والسيارة الفخمة للفخر والتباهى بين الناس. فاعلموا أن الذى يبذل مالا للفخر هذا عليه ذنب كبير عند الله. كذلك الذى يشترى الثوبَ الحسن حتى يمدحه الناس ليفخَر عند الناس وليشارَ إليه بالأصابع هذا عليه ذنب كبير.
الإنسان لما يخرج يوم القيامة من القبر لا تزول قدماه لا ينتقل من محله حتى يُسأل عن أربعة أشياء، منها عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه. فمن فعل ما يرضى الله وأعدَّ الجواب لذلك اليوم فهو الفائز. وأما الذى غَفَل عن ذلك وغرِق فى المعاصى وأمضى عمره فيما لا فائدة فيه فهو الذى يجد الحسرة والندامة يوم القيامة. نسأل الله أن يسلّمنا فى ذلك اليوم وأن يحسن لنا جميعا الختام.
وسنذكر إن شاء الله مزيدا من أحكام النكاح فى خطبتنا القادمة.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات.
[1] روى سَهْلُ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه ”أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ جِئْتُ لأَهَبَ لَكَ نَفْسِى. فَنَظَرَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَصَعَّدَ النَّظَرَ إِلَيْهَا وَصَوَّبَهُ ثُمَّ طَأْطَأَ رَأْسَهُ. فَلَمَّا رَأَتِ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ فِيهَا شَيْئًا جَلَسَتْ. فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ فَزَوِّجْنِيهَا. فَقَالَ هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَىءٍ؟ فَقَالَ لا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّه. قَالَ اذْهَبْ إِلَى أَهْلِكَ فَانْظُرْ هَلْ تَجِدُ شَيْئًا. فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ لا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا وَجَدْتُ شَيْئًا. قَالَ انْظُرْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ. فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ لا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلا خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ. وَلَكِنْ هَذَا إِزَارِي. (قَالَ سَهْلٌ مَا لَهُ رِدَاءٌ) فَلَهَا نِصْفُه. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَا تَصْنَعُ بِإِزَارِكَ؟ إِنْ لَبِسْتَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مِنْهُ شَىءٌ، وَإِنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ شَىءٌ! فَجَلَسَ الرَّجُلُ حَتَّى طَالَ مَجْلِسُهُ ثُمَّ قَامَ. فَرَءاهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مُوَلّـِيًا، فَأَمَرَ بِهِ فَدُعِىَ. فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: مَاذَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْءانِ؟ قَالَ: مَعِى سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا عَدَّهَا. قَالَ أَتَقْرَؤُهُنَّ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِك؟ قَالَ نَعَمْ. قَالَ اذْهَبْ فَقَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْءان.“ رواه البخارىّ. أى صَداقُها أن يعلّمَها ما حفظه من القرءان.
[2] القاعدة عند الشافعية أن كل ما صح ثمنا فى البيع صح صداقا. فيصح كل عمل يُستأجَر عليه من تعليم قرءان وفقه ونحوهما وتعليم صناعة كنسج وخياطة أو يتزوجها على أن يخيطَ لها ثوبا أو يبنىَ لها دارا.
[3] يُنظَر إلى قريبات المرأة من جهة أبيها ليُحَدَّدَ مهرُ مثلِها. فأولُ ما يُنظر لتحديد مهرِ المثل إلى أختِها من أبيها وأمّـِها. ويُنظر مع ذلك إلى صفات فيها كالثقافة والجمال ونحو ذلك ثم يقدَّر المهرُ بناءً على ذلك كله.
[4] وعلى هذا فلو تزوجها بغير ذكر المهر، صح النكاح بالإجماع. وبهذا يظهر أن المهر ليس ثمناً للمرأة يدفعه الزوج إليها فيتملكها، وإلا كان شرطًا من شروط العقد كما فى الثمن في عقد البيع. وفى إلزام الرجل بدفع المهر دون المرأة إشارة إلى قوامة الرجل عليها ووجوب إنفاقه عليها. وفى التزامه به دليل على صدق رغبته فى الزواج من المرأة وأنَّ ما يُقدِم عليه أمر له أهمية عنده. وفيه تكريمٌ لها وجعلُها مطلوبةً مرغوبًا فيها من بدلا من إثقالها بهذا الأمر. وإلزام المرأة في بعض المجتمعات جمعَ المال ودفعَه للتزوج من الرجل مخالفة لشرع الله الحنيف وليس فيه تكريم لها.
[5] وذلك خروجًا من خلاف الإمام أبى حنيفة لأنه لا يجيزُ أى لا يصحّـِحُ كونَ المهرِ أقلَّ من عشرةِ دراهم.
[6] يُسَنُّ أَنْ لا يَنقُصَ عن عَشرَةِ دَراهِمَ فِضَّةٍ خالِصةٍ (حوالى ٣٠ غراما أو أونصة)، وأن لا يَزِيدَ على خَمسِمائةِ دِرْهَمٍ خالِصٍ (حوالى ١٥٠٠ غراما أو خمسين أونصة).