أَسْبَابُ الْمَغْفِرَةِ
إنّ الحمدَ للهِ نحمَدُهُ ونستعينُهُ ونستهدِيهِ ونشكرُهُ ونستغْفِرُهُ ونتوبُ إليهِ، ونعوذُ باللهِ منْ شرورِ أنفسِنا ومنْ سيّئاتِ أعمالِنا، مَنْ يهدِ اللهُ فلا مُضِلَّ لهُ ومَنْ يُضلِلْ فلا هاديَ لهُ. وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ ولا مثيلَ لهُ ولا شَكْلَ ولا صورةَ ولا أعضاءَ لهُ ، هوَ الإلهُ العفُوُّ الغفورُ الْمُسْتَغْنِي عنْ كلِّ ما سِواهُ والْمُفتقِرُ إليهِ كلُّ ما عَداهُ. وأشهدُ أنّ سيّدَنا وحبيبَنا وعظيمَنا وقائدَنا وقرّةَ أعيُنِنا محمّدًا عبدُهُ ورسولُهُ وصفِيّهُ وحبيبُهُ، بلّغَ الرِّسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصَحَ الأمّةَ، صلّى اللهُ عليهِ صلاةً يقضي بِها حاجاتِنا ويفرِّجُ بِها كُرباتِنا ويكفينا بِها شرَّ أعدائِنا وسلَّمَ عليهِ وعلى صحبِهِ الطيبينَ وءالِهِ الأطهارِ ومَنْ والاهُ.
أما بعدُ عبادَ اللهِ، فإني أوُصيكُمْ ونفسِي بتقوَى اللهِ العليِّ القديرِ القائلِ في مُحكمِ كتابِهِ الْمُعْجِزَةِ الكريمِ: ﴿وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلكافِرينَ سَعِيرًا * وَللهِ مُلْكُ السمواتِ والأرضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكانَ اللهُ غَفُورًا رحِيمًا﴾ سورةُ الفتحِ/ 13/ 14. فَلَكَ الحمْدُ رَبَّنَا إِنَّكَ وَاسِعُ المَغْفِرَةِ.
فَخُطْبَتُنَا اليومَ عُنْوانُها أَسْبَابُ المغفرةِ فلقَدْ وَرَدَ في الحديثِ القُدسِيِّ أَنَّ اللهَ تعالَى يَقُولُ: "يا ابنَ ءَادَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتَ لَكَ علَى مَا كانَ مِنْكَ وَلا أُبَالِي، يا ابنَ ءادَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنوبُكَ عَنَانَ السَّماءِ ثُمَّ استَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلا أُبالِي، يا ابن ءادمَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرابِ الأَرْضِ خطايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً" رواهُ التِّرمِذِيُّ وقالَ حَدِيثٌ حَسن.
انتبِهُوا جَيِّدًا إِخْوَةَ الإِيمانِ لما روَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن ربِّهِ، يقولُ تعالَى في الحديثِ القُدسِيِّ: "يا ابْنَ ءادَمَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرابِ الأَرْضِ خَطَايا ثُمَّ لَقِيتَنِي لا تُشركُ بِي شَيْئًا لأتَيْتُكَ بِقُرابِها مَغْفِرَةً".
فأعظَمُ حُقوقِ اللهِ تعالَى على عِبادِهِ هو توحيدُهُ تعالَى وأَنْ لا يُشْرَكَ بهِ شىءٌ لأنَّ الإِشْراكَ بِاللهِ هو أكبَرُ ذَنْبٍ يَقْتَرِفُهُ العَبْدُ وهُوَ الذَّنْبُ الذِي لا يَغْفِرُهُ اللهُ ويَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلكَ لِمَنْ يَشاءُ، يقولُ اللهُ تعالَى: ﴿إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ سورةُ النساء / 48.
ويقولُ تعالى في القرءانِ المعجِزَةِ العَظيمِ: ﴿إنَّ الذينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سبيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُم﴾ سورة محمد / 34.
فالكفرُ بجميعِ أنواعِه هو الذنبُ الذِي لا يَغْفِرُهُ اللهُ أَيْ لِمَنِ اسْتَمَرَّ عليهِ إلَى الموتِ أو إلى حالةِ اليَأْسِ منَ الحياةِ برُؤْيَةِ ملَكِ الموتِ وَمَلائكَةِ العَذابِ أو إدراكِ الغَرَقِ بِحَيْثُ أيقَنَ بِالهلاكِ.
فَاحْمَدِ اللهَ أخي المؤمنُ على أعظَمِ وأفضَلِ النِّعَمِ نعمةِ الإِيمانِ وَاثْبُتْ علَى هذا الدِّينِ العَظيمِ دينِ الإِسلامِ الذِي جَاءَ بِهِ كلُّ الأنبياءِ وَرَضِيَهُ اللهُ تعالَى لِعِبادِه، وبادر إلى طَرْقِ أبوابِ الفَضَائلِ، وعَلَيْكَ بِهَجْرِ الموبِقَاتِ وَالسَّفاهَةِ والرَّذائِلِ، يَقُولُ اللهُ تعالى: ﴿والذينَ إذا فَعَلُوا فَاحِشَةً أو ظَلَمُوا أنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهم وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنوبَ إلاَّ اللهُ ولَمْ يُصِرُّوا على ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ سورة ءال عمران / 135.
فبابُ المَغْفِرَةِ واسِعٌ، فَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكم، فالتائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كمن لا ذَنْبَ لَهُ. أمَا بَلَغَكُمْ أَنَّ رسولَ اللهِ صلَوَاتُ رَبِّي وسلامُه عليهِ يقولُ: "أرأَيْتُمْ لَوْ أَنْ نهرًا ببابِ أحدِكم يَغْتَسِلُ منهُ كلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مرَّاتٍ هل يَبْقَى مِنْ دَرَنِه شَىءٌ؟ قالُوا: لا يَبْقَى من دَرَنِه شىءٌ، قالَ: فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الخَمْسِ يَمْحُو اللهُ بِهِنَّ الخَطَايَا". أيِ الذنوبِ الصغيرةِ.
ويقول صلى الله عليه وسلم : "ما مِنِ امرِىءٍ مسلمٍ تحضُرُهُ صَلاةٌ مَكْتُوبَةٌ فَيُحْسِنُ وُضوءَها وَخُشُوعَها وَرُكوعَها إلاَّ كانَتْ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَها مِنَ الذُّنوبِ مَا لَمْ تُؤتَ كَبِيرةٌ وَذَلكَ الدَّهْرَ كُلَّهُ " رواه مسلم.
فتذَكَّرْ أيها المؤمنُ أنَّ اللهَ وَاسِعُ المغفِرَةِ وهيَّأَ لكَ أَسْبَابَ الفوزِ بالمَغْفِرَةِ واللهُ تعالى شَكورٌ يُعطِي عَلَى العَمَلِ القَليلِ الأَجْرَ العَظِيمَ، فلَوْ قَرَأْتَ أخي المؤمن في السُّوقِ: "لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ ولَهُ الحمدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ حَيٌّ لا يَمُوتُ بِيَدِهِ الخيرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىءٍ قَدير"، يُكتبُ لكَ بإِذْنِ اللهِ أَجْرٌ عَظِيمٌ.
فقد وَرَدَ أَنَّ مَنْ قَرَأَ هذَا الذِّكْرَ فِي السُّوقِ كَتَبَ اللهُ لَهُ أَلْفُ أَلْفِ حَسَنَةٍ وغُفِرَ لَهُ أَلْفُ أَلْفِ سَيِّئةٍ. (ويقالُ لَهُ دُعاءُ السوقِ، أَلْفُ أَلف أي مليون).
معشرَ الحضورِ، قَدْ يَتَساءَلُ مُتسائِلٌ فَإِنْ مَضَى بِي العُمُرُ وأنفاسُ الإِنْسانِ خُطَاهُ إلى أَجَلِهِ وقَدْ أَسْرَفْتُ على نَفْسِي فَكيفَ أتدارَكُ أَمْرِي ؟ نَقُولُ لَهُ: إنَّ اللهَ تعالَى يقولُ: ﴿إنَّما التوبَةُ علَى اللهِ للذينَ يَعْمَلونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثم يَتُوبُونَ مِنْ قَريبٍ﴾. سورة النساء / ءاية 17.
فتدارَكْ نفسَكَ بِعِلْمِ الدِّينِ لِتَعْلَمَ الحَلالَ مِنَ الحَرامِ ولتعلمَ ما هِيَ المعاصِي لِتَتُوبَ مِنْها قبلَ أَنْ يُفاجِئَكَ مَلَكُ الموتِ عزرائِيلُ عليهِ السلامُ، واعلَمْ أَنَّ رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلمَ قالَ: "العُمْرَةُ إلَى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بينهُما" متفق عليه. (في لِسانِ العَرَبِ: وَسُمِّيَتِ الكَفَّاراتُ كَفّارَاتٍ لأنَّها تُكَفِّرُ الذُّنوبَ أَيْ تَسْـتُرُهَا).
فالعمرةُ تُكَفِّرُ الصغائرَ أيضًا، أمَّا الحَجُّ فَقَدْ جعَلَ اللهُ لَهُ مَزِيَّةً ليسَتْ لِلصَّلاةِ وَلا لِلصِّيامِ وَلا لِلزَّكاةِ وَهِيَ أنهُ أيِ الحجَّ المبرورَ يُكَفِّرُ الكَبَائرَ وَالصَّغائرَ لِقَوْلِه صَلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ذُنوبِه كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ" رَوَاهُ البُخارِيُّ.
بِخِلافِ الصَّلواتِ الخمسِ وَالزَّكاةِ وَالصِّيامِ فَإِنَّها لا تُكَفِّرُ الكبائِرَ وَمَعَ ذلكَ الصلواتُ الخَمْسُ مَرْتبتُها في الدينِ أعلَى مِنْ مَرتبَةِ الحَجِ.
ورُوِيَ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: "مَنْ قَالَ حِينَ يُصبِحُ رَضِيتُ باللهِ رَبًّا وبالإِسلامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا فأَنَا الزَّعِيمُ (أي أنَا ضَامِنٌ وكافِلٌ لَهُ) قالَ: فأنا الزَّعيمُ لآخُذَنَّ بِيَدِهِ حتَّى أُدْخِلَهُ الجنَّةَ" رواهُ الطبرانيُّ.
فمَنْ قَالَ هذهِ الجُمْلَةَ كُلَّ صباحٍ وَلَوْ مَرَّةً يَنَالُ هذَا الثَّوابَ العَظِيمَ بِهذِهِ الكَلِمَةِ الخَفِيفَةِ على اللسانِ بلا تَعَبٍ، فَهَلُمُّوا أحبابَنا الكِرَامَ إلَى طَرْقِ أَبْوَابِ الخَيْرِ وَطَلَبِ المَغْفِرَةِ مِنَ اللهِ العَظِيمِ الغَفَّارِ.
رَبِّ اغفِرْ لنا ذُنُوبَنا وَارْحَمْنَا يا وَاسِعَ المَغْفِرَةِ يَا رَبَّ العَالَمِينَ يَا الله. هذا وأستَغْفِرُ اللهَ لِي وَلكم
الخُطبةُ الثانيةُ
الحمدُ للهِ نحمَدُه ونستعينُه ونستغفرُه ونستهْدِيهِ ونشكُرُه ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أنفسِنا وسيّئاتِ أعْمَالِنا مَنْ يَهْدِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لهُ ومَنْ يُضْلِلْ فلا هادِي لهُ والصلاة والسلام على رسول الله . عبادَ اللهِ أُوصِيْ نفسِيَ وإيّاكمْ بتقْوَى اللهِ العَليّ العظيمِ، واعلَموا أنَّ اللهَ أمرَكُمْ بأمْرٍ عظيمٍ أمرَكُمْ بالصلاةِ والسلامِ على نبيِّهِ الكريمِ فقالَ: ﴿إنَّ اللهَ وملائكتَهُ يصلُّونَ على النبِيِ يَا أيُّهَا الذينَ ءامَنوا صَلُّوا عليهِ وسَلّموا تَسْليمًا﴾ اللّـهُمَّ صَلّ على سيّدِنا محمَّدٍ وعلى ءالِ سيّدِنا محمَّدٍ كمَا صلّيتَ على سيّدَنا إبراهيمَ وعلى ءالِ سيّدِنا إبراهيمَ وبارِكْ على سيّدِنا محمَّدٍ وعلى ءالِ سيّدِنا محمَّدٍ كمَا بارَكْتَ على سيّدِنا إبراهيمَ وعلى ءالِ سيّدِنا إبراهيمَ إنّكَ حميدٌ مجيدٌ، اللّـهُمَّ إنَّا دعَوْناكَ فاستجبْ لنا دعاءَنا فاغفرِ اللّـهُمَّ لنا ذنوبَنا وإسرافَنا في أمرِنا اللّـهُمَّ اغفِرْ للمؤمنينَ والمؤمناتِ الأحياءِ منهُمْ والأمواتِ ربَّنا ءاتِنا في الدنيا حسَنةً وفي الآخِرَةِ حسنةً وقِنا عذابَ النارِ اللّـهُمَّ اجعلْنا هُداةً مُهتدينَ غيرَ ضالّينَ ولا مُضِلينَ اللّـهُمَّ استرْ عَوراتِنا وءامِنْ روعاتِنا واكفِنا مَا أَهمَّنا وَقِنا شَرَّ ما نتخوَّفُ. عبادَ اللهِ إنَّ اللهَ يأمرُ بالعَدْلِ والإحسانِ وإيتاءِ ذِي القربى وينهى عَنِ الفحشاءِ والمنكرِ والبَغي، يعظُكُمْ لعلَّكُمْ تذَكَّرون .اذكُروا اللهَ العظيمَ يذكرْكُمْ واشكُروهُ يزِدْكُمْ، واستغفروه يغفِرْ لكُمْ واتّقوهُ يجعلْ لكُمْ مِنْ أمرِكُمْ مخرَجًا، وَأَقِمِ الصلاةَ.