تفسير سورة النصر
Listen to the Friday Speech in English here: Explanation of Surat Al Nasr
الحمد لله واهب النصر والفتح* والصلاة والسلام على سيدنا محمد القائل "اذهبوا فأنتم الطلقاءُ" يومَ الفتح* وعلى ءاله وصحبه وكل تَقِىٍّ ذى خُلُقٍ سَمْح. أما بعد أهلَ الإسلام، فإنِّى أُوَصِّى نفسىَ وأوَصِّيكم بتقوى الله جلَّ وَعَزَّ القائلِ فى كتابه الحكيم: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرۡكُمۡ وَيُثَبِّتۡ أَقۡدَامَكُمۡ ٧﴾ محمد.
ثم إنَّ ربَّنا جَلَّ وَعَزَّ أنزل على قلب حبيبه محمدٍ ﷺ سورةً من سور القرءان الكريم هى سورة النصر، ثلاث ءايات. يقول الله جَلَّ وَعَزَّ:
﴿إِذَا جَآءَ نَصۡرُ ٱللَّهِ وَٱلۡفَتۡحُ ١ وَرَأَيۡتَ ٱلنَّاسَ يَدۡخُلُونَ فِى دِينِ ٱللَّهِ أَفۡوَاجٗا ٢ فَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ وَٱسۡتَغۡفِرۡهُۚ إِنَّهُۥ كَانَ تَوَّابَۢا ٣﴾. وهى مدنية أى نزلت على الحبيب المصطفى وهو فى المدينة. وهى ءاخر سورة نزلت جميعًا. قاله ابن عباس كما فى صحيح مسلم. وأما ءاخر ءاية نزلت فهى ما نقله البخارىُّ وغيره عن ابن عباس: ﴿وَٱتَّقُواْ يَوۡمٗا تُرۡجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ ٢٨١﴾ البقرة.
وتفسير هذه السورة: ﴿إِذَا جَآءَ نَصۡرُ ٱللَّهِ وَٱلۡفَتۡحُ ١﴾ إذا جاء عونُ الله وفتحُ مكة. لما فتح رسول الله ﷺ مكة قالت العرب: أما إذا ظفر محمد بأهل الحرم وقد أجارهم الله من أصحاب الفيل، فليس لكم به يدان أى طاقة فدخلوا فى دين الله أفواجًا. وذلك قوله تعالى: ﴿وَرَأَيۡتَ ٱلنَّاسَ يَدۡخُلُونَ فِى دِينِ ٱللَّهِ أَفۡوَاجٗا ٢﴾ أى جماعات كثيرة فوجًا بعد فوج بعدما كانوا يدخلون فى الإسلام واحدًا واحدًا أو اثنين اثنين.
وقد روى أحمد فى مسنده وعبد الرزاق فى تفسيره عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: لما نزلت ﴿إِذَا جَآءَ نَصۡرُ ٱللَّهِ وَٱلۡفَتۡحُ ١﴾ قال النبى ﷺ: "أتاكم أهلُ اليمن. هم أرقُّ أفئدةً وألينُ قلوبًا. الإيمانُ يَمانٍ، والحكمة يمانية." اهـ وهو عند البخارىِّ ومسلم. أى أفئدتهم أَلْيَنُ الأفئدة وأسرعُها لقَبول الحق، وقلوبُهم أعطفُ القلوب وأشفقُها. ونسَب الإيمانَ إلى أصل اليمن إشعارًا بكمال إيمانهم. والمراد بذلك الموجودون منهم حينئذ لا كلُّ أهل اليمن فى كل زمان. ونسَب الحكمةَ إليهم كما نسب الإيمان، والمراد بها هنا العلم المشتمل على المعرفة بالله. وهم الذين أنزل الله فيهم: ﴿فَسَوۡفَ يَأۡتِى ٱللَّهُ بِقَوۡمٖ يُحِبُّهُمۡ وَيُحِبُّونَهُۥٓ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ يُجَٰهِدُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوۡمَةَ لَآئِمٖۚ ذَٰلِكَ فَضۡلُ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ ٥﴾ المائدة.
أما قوله جَلَّ وَعَزَّ: ﴿فَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ﴾ ففيه قولان أحدهما الصلاة قاله ابن عباس، والآخر التسبيح المعروف قاله جماعة من المفسرين. وقوله تعالى: ﴿وَٱسۡتَغۡفِرۡهُۚ إِنَّهُۥ كَانَ تَوَّابَۢا ٣﴾ أى دُم على الاستغفار إنه كان ولم يَزَلْ تَوّابًا كثيرَ القَبول للتوبة. روى البخارىُّ عن عائشة رضى الله عنها قالت: ما صلَّى النبىُّ ﷺ صلاةً بعد أن نزلت عليه إذا جاء نصر الله والفتح إلا يقول فيها: سبحانك ربَّنا وبحمدِك. اللهم اغفر لى. اهـ وفى رواية أخرى له عنها قالت: كان رسول الله ﷺ يكثر أن يقول فى ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربَّنا وبحمدك. اللهم اغفر لى، يتأوَّل القرءان اهـ .
وقد روى البخارىُّ فى صحيحه فى باب قوله "فسبح بحمد ربّك واستغفره إنه كان توابًا" عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: كان عمر يُدخلنى مع أشياخِ بدرٍ. فكأنَّ بعضَهم وجَدَ فى نفسه فقال: لِمَ تُدخل هذا معنا ولنا أبناءٌ مثله؟ فقال عمر: إنه مِن حيث علمتم (إشارةً إلى فطنته وحرصِه على تعلُّم العلم. وكان عمر يقول عنه: ذلكم فتى الكُهول، ذو اللسان السَّؤول والقلب العَقول). فدعاهم ذات يوم ودعانى معهم. فما رُئِيتُهُ (أظنُّه) دعانى يومئذ إلا ليريَهم منِّى. قال ما تقولون فى قول الله تعالى إذا جاء نصر الله والفتح؟ فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفرَه إذا نصرَنا وفتحَ علينا. وسكت بعضهم فلم يقل شيئًا. فقال لي: أكذلك تقول يا ابن عباس؟ فقلت لا. قال فما تقول؟ قلت هو أَجَلُ رسولِ الله ﷺ أَعلَمَه له. قال: "إذا جاء نصر الله والفتح" فذاك علامةُ أجلِك. "فسبح بحمد ربّك واستغفره إنه كان توّابا". فقال عمر: ما أعلمُ منها إلا ما تقولُ. اهـ قال ابن عباس : لما نزلت هذه السورة علم النبى صلى الله عليه وسلم أنه نعيت إليه نفسه . لذا تسمى هذه السورةُ سورةَ التوديع.
وفى البخارىّ عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الخُدْرِى رَضِى اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ جَلَسَ عَلَى المِنْبَرِ فَقَالَ: «إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا مَا شَاءَ، وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ.» فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ: فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا. فَعَجِبْنَا لَهُ. وَقَالَ النَّاسُ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الشَّيْخِ، يُخْبِرُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ عَبْدٍ خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا، وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا. فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ هُوَ المُخَيَّرَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ هُوَ أَعْلَمَنَا بِهِ." وفى مسلم: "فبكى أبو بكر وبكى" معناه بكى كثيرا ثم بكى.
جزى الله عنا علماءنا خيرًا ويسَّرَ لنا تلاوةَ القرءانِ وفهمَه. إنه على كل شىء قدير.
هذا وأستغفر الله لى ولكم.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد عباد الله اتقوا الله.
إخوة الإيمان، إنَّ فى ءايات القرءان الكريم وسيرة نبىّ الله العظيم لَدروسًا وعِبَرًا. فكلُّنا يعلم شِدَّة ما قاساه النبىُّ عليه الصلاة والسلامُ وأصحابُه فى أول البِعثةِ من المشاقّ والإيذاء والنَّصَبِ فى نشر دين الحق ونُصْرَتِهِ، وكم عانَوا فى الثباتِ على الحقّ من البلايا والمِحَنِ مع قِلَّةِ عدَدِهِم وكثرةِ أعدائهم مالًا ورِجالًا. ثم جاء النصرُ والفتحُ فدخل الناس فى دين الله أفواجًا. جاء الفرجُ بعد الصبر، وإنّ الفرجَ مع الصبر. والله تبارك وتعالى مع الصابرين بالنُّصرَةِ والحِفظِ والإكرام. فلا ينبغى للواحد منّا أن تَثْنِيَهُ المصاعِبُ والمشاقُّ فى الدعوَةِ إلى الحق عن الثباتِ والمُضِى قُدُمًا فى نشرِ عقيدَةِ رسولِ الله ﷺ ونشرِ الخير بين الناس فى الوطن وخارجَهُ، لعلَّ اللهَ يجعلُ مع صبرنا فتْحًا وفَرجًا ويؤتِناه يوم القيامة ذُخْرًا فضلًا منه وكَرمًا. اللهم ثبّتنا على الحق ونُصرَتِهِ، وسَخِّرْنا لخِدمَةِ دينِكِ، واغفر لنا ذنوبنا، وهَيِّئْ لنا من أمرِنا رَشَدًا. اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات.
الجمعة فلادلفيا ٢٢ شباط ٢٠١٩ر- ١٧ جمادى الآخرة ١٤٤٠ هـ